ذكر تلك الفرية كثير من علماء الشيعة، منهم الحلي في كتابه «نهج الحق وكشف الصدق» قال: «وفي (الجمع بين الصحيحين) في مسند أنس بن مالك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر، فأعرض عنه. وهذا يدل على سقوط منزلتهما عنده»[1].
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: هذان صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، المقدمان على سائر الصحابة رضي الله عنهم في العلم والفضل، وهما وزيرا النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبا مشورته، ومحل أمانته، والأحاديث والآثار في فضلهما ومنزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة، ومن أهل الإسلام أكثر من أن تحصر؛ لذلك كانا لا يفارقان النبي صلى الله عليه وسلم في سلم ولا حرب، وهذا شأن أهل المشورة.
روى التّرمذيّ، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن حنطب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: «هذان السّمع والبصر»[2].
قال ابن حزم: «وكان أبو بكر رضي الله عنه معه لا يفارقه إيثارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك، واستظهارًا برأيه في الحرب وأنسًا بمكانه، ثمَّ كان عمر ربما شورك في ذلك أيضًا، وقد انفردا بهذا المحل دون عليٍّ ودون سائر الصَّحابة إلَّا في الندرة»[3].
ومما يدل على أن استشارة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في البداية موجهة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، رواية الإمام أحمد -بإسناد صحيح على شرط البخاري- عن أنس بن مالكٍ قال: «استشار النَّبي صلى الله عليه وسلم مخرجه إلى بدرٍ، فأشار عليه أبو بكرٍ، ثمَّ استشار عمر، فأشار عليه عمر، ثمَّ استشارهم، فقال بعض الأنصار: إيّاكم يريد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الأنصار...»[4].
وعليه؛ فقد كانت إشارة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في محلها، وإلا لما اتخذهما النبي صلى الله عليه وسلم وزِيرَيْن ومستشارَيْن له.
ثانيًا: الكلام الذي صدر من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كان تشجيعًا للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية له، ونصرة، قال تعالى: وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (الأنفال: 62) ، ومما يدل على ذلك رواية الطبري التي فيها: «... وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، حتَّى بلغ واديًا يقال له: ذفران، فخرج منه، حتَّى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريشٍ بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النَّبي صلى الله عليه وسلم النَّاس، وأخبرهم عن قريشٍ، فقام أبو بكرٍ رضي الله عنه فقال فأحسن، ثمَّ قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثمَّ قام المقداد بن عمرٍو فقال: يا رسول الله، امض إلى حيث أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (المائدة: 24)، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، فوالّذي بعثك بالحقّ لئن سرت بنا إلى بَرْك الغِمَاد[5] لجالدنا معك من دونه حتَّى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ثمَّ دعا له بخيرٍ، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليّ أيّها النَّاس»، وإنَّما يريد الأنصار، وذلك أنّهم كانوا عدد النَّاس، وذلك أنّهم حين بايعوه على العقبة قالوا: يا رسول الله، إنَّا برآء من ذمامك حتَّى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمّتنا، نمنعك ممّا نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلَّا ممّن دهمه بالمدينة من عدوّه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوٍّ من بلادهم. قال: فلمَّا قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذٍ: لكأنّك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أجل...» [6].
وهذا من أصرح الأدلة على ما ذكرناه من إحسان أبي بكر وعمر في المشورة.
ثالثًا: سبب الإعراض -كما هو واضح- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد رأي الأنصار؛ لأنهم أهل الدار والمنعة، ومقتضى بيعتهم في العقبة أنهم يدافعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فقط، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نَصرَه إلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ من المدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم[7].
قال الإمام النووي: «إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلّم أبو بكرٍ فأعرض عنه، ثمَّ تكلّم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيّانا تريد يا رسول الله؟ والّذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها لأخضناها.
قال العلماء: إنَّما قصد صلى الله عليه وسلم اختبار الأنصار؛ لأنَّه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدوّ، وإنَّما بايعهم على أن يمنعوه ممّن يقصده، فلمَّا عرض الخروج لعير أبي سفيان أراد أن يعلم أنّهم يوافقون على ذلك، فأجابوه أحسن جوابٍ بالموافقة التّامّة في هذه المرّة وغيرها، وفيه استشارة الأصحاب وأهل الرَّأي»[8].
ولأجل ذلك كان الإعراض؛ لأن خروج أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للحرب مضمون، وقد تركوا ديارهم وناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شتى المواقف.
رابعًا: هل كل من أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم يكون منافقًا أو كافرًا؟!
ثبت في كتب الشيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عن فاطمة ابنته، ففي (المناقب) لابن شهر آشوب، قال أبو صالحٍ المؤذّن في كتابه بالإسناد عن عليٍّ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة، فإذا في عنقها قلادةٌ، فأعرض عنها، فقطعتها، فرمت بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنْتِ مِنِّي يَا فَاطِمَةُ»، ثمَّ جاءها سائلٌ فناولته القلادة[9]. والرواية عن موسى بن جعفر عن آبائه [10].
فهل عندما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن فاطمة كانت منافقة، أو كافرة، أو جاهلة كما تزعمون؟!
بل وأعرض النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا عن سلمان الفارسي رضي الله عنه؛ فقد نقل عالمهم نور الله التستري رواية طويلة، وفيها: «قلنا لسلمان: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نسند إليه أمورنا، ويكون مفزعنا، ومن أحب الناس إليه؟ فلقيه فسأله، فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه»[11].
فهل ستقولون في سلمان ما قلتموه في أبي بكر وعمر؟!
اقرأ أيضا| قولهم: إن تبشير غير المعصوم بالجنة إغراء بالقبيح.. ولا يجوز
[1] «نهج الحق وكشف الصدق» الحلي (1/339).
[2] «سنن الترمذي» (6/49) برقم (3671)، و«المستدرك على الصحيحين» (3/73) برقم (4432). وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2/452) برقم (814)، وانظر: «السراج المنير في ترتيب أحاديث صحيح الجامع الصغير» (2/683).
[3] «الفصل في الملل والأهواء والنحل»، ابن حزم (4/107).
[4] «مسند أحمد» (20/281) برقم (12954).
[5] بَرك الغماد: مَوضِع بِنَاحِيَة الْيمن، وَقيل: هُوَ أقْصَى حجر. وَقَالَ السهيليّ: وجدت فِي بعض كتب التَّفْسِير أَنَّهَا مَدِينَة الحَبَشَة. انظر: «الروض الأُنُف» (5/71).
[6] «تفسير الطبري» (11/41 - 43)، و«سيرة ابن هشام» (1/606 -615).
[7] «فقه السيرة»، منير الغضبان (ص413)؛ «فقه السيرة»، محمد الغزالي (ص:230).
[8] «شرح صحيح مسلم»، النووي (12/124).
[9] «المناقب»، ابن شهر آشوب (3/343).
[10] «كشف الغمة في معرفة الأئمة»، الإربلي (1/446).
[11] «إحقاق الحق وإزهاق الباطل»، التستري (31/319).
لتحميل الملف pdf