قال صلاح الدين الحسيني: «وهناك روايات عديدة في البخاري ومسلم تؤكّد أن العديد من الصحابة كانوا لا يطيقون ذكر اسم عليّ، نذكر منها هذه الرواية:
روى البخاري في (صحيحه) وقال: «حدَّثنا إبراهيم بن موسى قال: أخبرنا هشام بن يوسف، عن مَعْمر، عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال: قالت عائشة: لَمَّا ثقل النبيُّ صلى الله عليه وسلم واشتدَّ وجعه، استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فأذنَّ له، فخرج بين رَجُلين تخطُّ رجلاه الأرض، وكان بين العبّاس ورجل آخر، قال عبيد الله: فذكرت ذلك لابن عبّاس ما قالت عائشة: فقال لي: وهل تدري من الرجل الذي لم تسمِّ عائشة؟ قلت: لا، قال: هو عليّ بن أبي طالب»([1]).
وقال علي آل محسن: «ثم إن عائشة كان بينها وبين أمير المؤمنين جفوة، وربما صدر منها ما يصدر من النساء في عداواتهن مع غيرهن، ولذا أعرضتْ عن ذِكر اسم علِي لَمَّا خرج النبي ص في مرضه معتمدًا عليه وعلى العباس فيما أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه وغيرهم»([2]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: أم المؤمنين هي التي روت فضائل علي وآل البيت:
كانت أم المؤمنين تعرف لعلي بن أبي طالب سابقته في الإسلام، وفضله وجهاده، وتضحياته، ومصاهرته للنبي ق، بل وكانت تدل الناس عليه، ففي الفقه كانت تدل الناس عليه، فلما سألها شريح بن هانئ عن المسح على الخفَّين قالت له: «عليك بابن أبي طالب فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله»([3]).
وفي الإمارة والولاية دلت عليه، فقد أخرج ابن أبي شيبة أن عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي: «سأل عائشة من يبايع؟ فقالت له: الزم عليًّا»([4]).
وفي فضائل علي وآل بيت النبوة لها السبق في رواية فضائلهم، ذكرها أئمة الحديث بأسانيدها، وهي تدل دلالة واضحة على أمانتها وديانتها وعظيم احترامها وتقديرها لأمير المؤمنين وأهل البيت الكرام.
فروت أمُّ المؤمنين مناقبَ أهل البيت التي تعتبر شامة في مناقب الإمام عليٍّ وأهل البيت ي؛ فحديث الكساء الذي يلُوكه الشيعة بألسنتهم ليلَ نهار مروي من طريقها.
أخرج مسلم في «صحيحه» عن عائشة ل قالت: «خرج النبي غداة وعليه مِرطٌ مرحَّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن عليٍّ فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليٌّ فأدخله، ثم قال: قال تعالى: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] {الأحزاب:33}»([5]).
فكيف بعد هذا يدعي من كان له أدنى ذرة عقل أو دين أنها ناصبت العداء لعلي ا؟! بل لما بويع عليٌّ خليفة للمسلمين لم يتغير موقفها منه، ولا حملت في قلبها عليه، وهي التي كانت تدعو إلى بيعته وفقهه .
ثانيًا: عدم تسمية علي في حديثها لا يلزم منه بغضها ولا عداوتها:
لو فرضنا جدلًا أنها لم تسمه لِشيء في نفسها –وهو قول مرجوح عند أهل السنة- فليس هذا بقادح؛ فمثل هذه الأمور تحصل بين البشر، ولم يكن هذا بمجرده قادحًا في أحدهم ليكون قادحًا في أم المؤمنين.
قال العيني: «مَا الْحِكْمَة فِي أَن عَائِشَة ل قَالَت: (وَرجل آخر) وَلم تعينه، مَعَ أَنه كَان هُوَ عَليّ بن أبي طَالب ا؟
أُجِيب: بِأَنهُ كَان فِي قَلبهَا مِنهُ مَا يحصل فِي قُلُوب الْبشر مِمَّا يكون سَببًا فِي الْإِعْرَاض عَن ذكر اسْمه.
وَجَاء فِي رِوَايَة: (بَين الْفضل بْن عَبَّاس)، وَفِي أُخْرَى: (بَين رجلَيْن أَحدهمَا أُسَامَة)، وَطَرِيق الْجمع أَنهم كَانوا يتناوبون الْأَخْذ بِيَدِهِ الْكَرِيمَة، تَارَة هَذَا وَتارَة هَذَا، وَكَان الْعَبَّاس أَكْثَرهم أخذًا بِيَدِهِ الْكَرِيمَة؛ لِأَنهُ كَان أدومهم لَهَا إِكْرَامًا لَهُ واختصاصًا بِهِ، وَعلي وَأُسَامَة وَالْفضل يتناوبون الْيَد الْأُخْرَى، فعلى هَذَا يُجَاب بِأَنهَا صرحت بِالْعَبَّاسِ وأبهمت الآخر لكَوْنهم ثَلَاثَة، وَهَذَا الْجَواب أحسن من الأول»([6]).
وقال القسطلاني: «فكان -أي العباس- أدومَهم لأخذ يده الكريمة إكرامًا له واختصاصًا به، والثلاثة يتناوبون الأخذ بيده الأخرى، ومن ثم صرَّحت عائشة بالعباس وأبهمت الآخر، أو المراد به علي بن أبي طالب ولم تسمه لما كان عندها منه مما يحصل للبشر مما يكون سببًا في الإعراض عن ذكر اسمه»([7]).
فهذه مسألة تعتري البشر جميعًا، وإن كانوا من أفراد الأسرة الواحدة، كغضبة الأخ من أخيه أو أخته أو أمه فيفارق اسمه فقط، وهذه أيضًا عادة عند العرب، فكانت أمنا عَائِشَة تقسم: «ورب محمد» حال رضاها مع النبِيِّ، فإن كان هناك شيءٌ آخر قالت: «ورب إبراهيم»، فلما أخبرها النبِيُّ بمعرفته ذلك قالت: «لا أفارق إلا اسمك»([8]).
قال الزرقاني في تعليقه على هذه الرواية: «وذلك لِمَا جُبِلَ عليه الطبع البشري، فلا إزراء في ذلك عليها ولا على عليٍّ»([9]).
فربَّما وجدتْ عائشة في نفسها شيئًا من علِي ا في أمرٍ من الأمور كطبيعة البَشر، وتوافق مع ذلك الموقف، ولكن من المحال أن يكون حقدًا مستمرًا، وعداءً لا يزول، بل ذلك من أبعد الأشياء عن عائشة، فإنها لم تحمل على الذين خاضوا في الإفك، مع أن ذلك كان من أشدِّ المصائب عليها، فكان نصيب الخائضين من عَائِشَة ل العفو والصفح، لدرجة أَنها كانت تُنافح عنهم إذا ذكرهم أحدٌ أمامها بسوء.
فهذا حسَّان بن ثابت كان من الخائضين في الإفك، وكان ممَّن أكثر في رمي عَائِشَة، ومع ذلك لم تحقد عليه الصدِّيقة، بل كانت تنهى عن سبِّه أو الإساءة إليه، ففي الصحيحين أنها قالت لعروة بن الزبير لَمَّا أخذ يسبهّ: «لَا تَسُبَّهُ، فَإِنهُ كَان يُنافِحُ عَن رَسُولِ اللهِ»([10]).
ثالثًا: وقوع النزاع والخلاف بين المعصومين مع عدم القدح في أحدهما
قال محمد آصف محسني: «وفي بعض الروايات أنه وقع بين علي وفاطمة كلام فأصلح بينهما رسول الله، ولم يرض به الصدوق، ولا المؤلف العلامة، فإنهما مقتديان برسول الله في حسن الخلق، فلا يقع بينهما كلام حتى يحتاج رسول الله إلى الإصلاح بينهما، وللمؤلف توجيه آخر.
أقول: كأنهما تغافَلا عن أن الأنبياء والأولياء -مع كمالهم- بشر، وأنه لا يوجد بشران متفقان فكرًا وتمايُلًا وعمَلًا؛ ولذا تنازع موسى وهارون وأخذ موسى بلحية هارون، وإنما المنافي لمقامهما كثرة النزاع أو الدوام عليه بعد وقوعه أو بعد إصلاح النبي -صلى الله عليه وآله- بينهما، ولم يكن كذلك كما يظهر من الروايات»([11]).
فإذا كان لا يوجد بشران متفقَيْن فكرًا وتمايلًا وعملًا، وإذا كان مثل هذا النزاع والخلاف قد يقع بين المعصومين، فأي شناعة أن يقع مثل هذا بين عائشة وعليٍّ ب؟!
اقرأ أيضا| همُّ عائشة بالانتحار
([1]) سبيل المستبصرين إلى الصراط المستقيم، صلاح الدين الحسيني (ص350).
([2]) مسائل خلافية حار فيها أهل السنة، علي آل محسن (ص67).
([3]) صحيح مسلم (1/232).
([4]) مصنف ابن أبي شيبة (7/545).
ورد في بعض طرق الحديث الذي استدل به الرافضي أنها: «كانت لا تطيب له نفسًا»، وهذه الزيادة شاذة لا تصح.
فإعراض الشيخين عن هذه الزيادة، وعدم اتفاق أصحاب الزهري عليها يجعل في القلب منها شيئًا؛ فسفيان وعقيل وشعيب لم يذكروها في الحديث، وذكرها معمر ورواها ابن المبارك عن معمر، ويونس جمعهما في حديث واحد، وقد أعرض الشيخان عن الزيادة مع روايتهما للحديث من طريق ابن المبارك عن معمر، وأيضًا موسى ابن أبي عَائِشَة لم يتابع الزهري على هذه الزيادة.
كذلك ممن حدث به عن الزهري بغير الزيادة: إبراهيم بن سعد وهو في الطبقات (الطبقات الكبرى 2/179) قبل الحديث محل السؤال مباشرة، وقد روى البيهقي في الدلائل (دلائل النبوة 7/169) الحديث من مغازي ابن إسحاق برواية يونس بن بكير (وهو طريق ابن حجر للمغازي)، فرواه ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن الزهري، وليس فيه هذه اللفظة، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث.
ورواه ابن إسحاق عن الزهري بغير واسطة بدون تلك اللفظة أيضًا، وهذا عند أبي يعلَى (مسند أبي يعلى 8/57) وإسناده جيد، وصرح ابن إسحاق بالتحديث، فصار من روى الحديث بغير الزيادة سفيان بن عيينة، وشعيب، وعقيل، وإبراهيم بن سعد، ويعقوب بن عتبة، وابن إسحاق، وتفرد بالزيادة معمر.
وقد أخرج الشيخان الحديث واتفقا على الإعراض عن تلك الزيادة مع أنهما يرويانها من طريق معمر، فلعل هذه اللفظة لا تصح في الحديث.
ولذلك فقد مال بعض طلبة العلم المعاصرين إلى شذوذ هذه الرواية (إجلاء الحقيقة في سيرة عائشة الصديقة، ياسين الخليفة الطيب المحجوب. ص164).
([5]) صحيح مسلم (4/1883).
([6]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني (3/92).
([7]) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، القسطلاني (1/275).
وقال الكِرْمَاني: «فإن قلت: لِمَ ما سمته؟ قلت: عدم تسميتها له لم يكن تحقيرًا، أو عداوة حاشاها من ذلك، قال النووي: ثبت أيضًا أنه ق جاء بين رجلين أحدهما أسامة، وأيضًا أن الفضل بن عباس كان آخذًا بيده الكريمة، فوجهه أن يقال: إن الثلاثة كانوا يتناوبون في الأخذ بيدٍ، وكان العباس يلازم الأخذ باليد الأخرى، وأكرموا العباس باختصاصه بيد واستمرارها له؛ لما له من السن والعمومة وغيرهما، فلذلك ذكرته عائشة مسمًّى صريحًا، وأبهمت الرجل الآخر؛ إذ لم يكن أحدهم ملازمًا في جميع الطريق، ولا معظمه بخلاف العباس». الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/52).
([8]) صحيح البخاري (7/36)، صحيح مسلم (4/1890).
([9]) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية (12/84).
([10]) صحيح البخاري (4/185)، وصحيح مسلم (4/1933).
([11]) مشرعة بحار الأنوار، محمد آصف محسني (2/138- 139).
لتحميل الملف pdf