زعمت الشيعة أن عائشة حرَّضت على قتل عثمان ، واستدلوا على ذلك برواية الطبري، وفيها أنه قال:
«كَتَبَ إِلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْعِجْلِيُّ أَن الْحُسَيْنَ بْنَ نصْرٍ الْعَطَّارَ قَالَ: حَدَّثَنا أَبِي نصْرُ بْنُ مُزَاحِمٍ الْعَطَّارُ قَالَ: حَدَّثَنا سَيْفُ بْن عُمَرَ، عَن مُحَمَّدِ بْن نوَيْرَةَ وَطَلْحَةَ بْن الأَعْلَمِ الْحَنفِيِّ قَالَا: حَدَّثَنا عُمَرُ بْن سَعْدٍ، عَن أَسَدِ بْن عَبْدِ اللهِ، عَمَّن أَدْرَكَ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ: «أَن عَائِشَةَ لَمَّا انتَهَتْ إِلَى سَرِفَ رَاجِعَةً فِي طَرِيقِهَا إلى مَكَّةَ، لقيها عبد ابن أُمِّ كِلابٍ -وَهُوَ عَبْدُ بْن أَبِي سَلَمَةَ، يُنسَبُ إِلَى أُمِّهِ- فَقَالَتْ لَهُ: مَهْيَمْ؟ قَالَ: قَتَلُوا عُثْمَان، فَمَكَثُوا ثَمَانيًا، قَالَتْ: ثُمَّ صَنعُوا مَاذَا؟ قَالَ: أَخَذَهَا أَهْلُ الْمَدِينةِ بِالاجْتِمَاعِ، فَجَازَتْ بِهِمُ الْأُمُورُ إِلَى خَيْرِ مُجَازٍ، اجْتَمَعُوا عَلَى عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَتْ: وَاللهِ لَيْتَ أَن هَذِهِ انطَبَقَتْ عَلَى هَذِهِ إِن تَمَّ الأَمْرُ لِصَاحِبِكَ! رُدُّوني رُدُّوني، فَانصَرَفَتْ إِلَى مَكَّةَ وَهِيَ تَقُولُ: قُتِلَ وَاللهِ عُثْمَان مَظْلُومًا، وَاللهِ لأَطْلُبَن بِدَمِهِ، فَقَالَ لَهَا ابْن أُمِّ كِلابٍ: وَلِمَ؟ فَوَالله إِن أَوَّلَ مَن أَمَالَ حَرْفَهُ لأَنتِ! وَلَقَدْ كُنتِ تَقُولِين: اقْتُلُوا نعْثَلا فَقَدْ كَفَرَ، قَالَتْ: إِنهُمُ اسْتَتَابُوهُ ثُمَّ قَتَلُوهُ، وَقَدْ قُلْتُ وَقَالُوا، وَقَوْلِي الأَخِيرُ خَيْرٌ مِن قَوْلِي الأَوَّلِ...»([1]).
قال المجلسي: «ومن العجب أن عائشة حرضت الناس على قتل عثمان بالمدينة وقالت: اقتلوا نعثلًا، قتل الله نعثلًا»([2]).
وقال عليٌّ الكوراني: «نقمت عائشة على عثمان حتى حرضت المسلمين عليه بفتواها المشهورة: «اقتلوا نعثلًا؛ فقد كفر»([3]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: فساد الدليل سندًا ومتنًا
قال الآلوسي: «وما زعمته الشيعة من أنها -رضي الله تعالى عنها- كانت هي التي تحرض الناس على قتل عثمان... كذب لا أصل له، وهو من مفتريات ابن قتيبة وابن أعثم الكوفي والسمساطي، وكانوا مشهورين بالكذب والافتراء»([4]).
وبيان سقوط هذا الخبر من جهتين، جهة الإسناد وجهة المتن كالتالي:
أ. سقوط الإسناد:
1. الانقطاع: بإبهام الراوي عن عائشة في قوله: «عَمَّن أَدْرَكَ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ».
2. نصر بن مزاحم: قال ابن الجوزي في ترجمته: «نصر بن مُزَاحم الْمنقري الْكُوفِي الْعَطَّار، قَالَ أَبُو خثيمَةَ: كَان كذابًا. قَالَ يحيى: لَيْسَ حَدِيثُه بِشَيْء. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيُّ: واهي الحَدِيث، مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الدارقطني: ضَعِيف. وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب الجُوزَجَاني: كَان زائغًا عَن الْحق. قَالَ أَبُو بكرٍ الْخَطِيب: يُرِيد بذلك غلوة فِي الرَّفْض. وَقَالَ صَالح بن مُحَمَّد: روى عَن الضُّعَفَاء أَحَادِيث مَناكِير. وَقَالَ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيُّ: كَان غاليًا فِي مذْهبه غيرَ مَحْمُودٍ فِي حَدِيثه»([5]).
3. سيف بن عمر: قال النسائي: «سيف بن عمر الضبي ضعيف»([6])، وقال الحافظ ابن الجوزي: «سيف بن عمر الضَّبِّيُّ عَن أبي بكر، الْمدني فِي الأَصْل كُوفِي، يروي عَن عبيد الله بن عمر الْعمريّ، قَالَ يحيى: ضَعِيف الحَدِيث فلس خير مِنهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيُّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ النسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حِبَان: يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات، وَقَالَ: إِنه يضع الحَدِيث»([7]).
ب- سقوط المتن:
1. المخالفة للصحيح الثابت المنقول عنها: لم تكتب أم المؤمنين عائشة لهؤلاء الغوغاء الذين قتلوا عثمان شيئًا، ففي (تاريخ خليفة بن خياط) بإسناد صحيح عَن مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَت عَائِشَة: «تَرَكْتُمُوهُ كَالثَّوْبِ النقِيِّ مِن الدَّنسِ، ثمَّ قربتموه تذبحونه كَمَا يُذبح الْكَبْش؟
قَالَ مَسْرُوق فَقلت: هَذَا عَمَلُك، كتبتِ إِلَى الناس تأمرينهم بِالْخرُوجِ عَلَيْهِ.
فَقَالَت عَائِشَة: وَالَّذِي آمن بِهِ الْمُؤْمِنون وَكفر بِهِ الْكَافِرُون مَا كتبتُ إِلَيْهِم بسوادٍ فِي بَيَاضٍ حَتَّى جَلَستُ مجلسِي هَذَا.
قَالَ الْأَعْمَش: فَكَانوا يرَوْن أَنه كُتب عَلَى لسَانهَا»([8]).
كما أن الذي ثبت عنها إنكارها لمقتل عثمان، روى خليفة بإسناد صحيح عَن أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِي قَالَ: قَالَت عَائِشَة: «استَتَابوه حَتَّى تَرَكُوهُ كَالثَّوْبِ الرحيضِ ثمَّ قَتَلُوهُ»، حَدَّثَنا أَبُو قُتَيْبَة قَالَ: نا يُونس بْن أَبِي إِسْحَاق، عَن عون بْن عَبْد اللهِ بن عتبَة قَالَ: قَالَت عَائِشَة: «غضِبت لكم من السَّوْط، وَلَا أغضب لعُثْمَان من السَّيْف؟! استَعْتَبْتُمُوه حَتَّى إِذا تَرَكْتُمُوهُ كالقلب الْمُصَفَّى قَتَلْتُمُوهُ!»([9]).
2. روايتها فضائله وانفرادها ببعضها: كانت أم المؤمنين عائشة ل من أعرف الناس بفضائل عثمان ا ومناقبه، وقد انفردت برواية أحاديث في فضائله، فكيف يقال: إنها كانت من المحرضين على قتله؟!
روى الإمام أحمد عن عُمَرَ بْن إِبْرَاهِيمَ الْيَشْكُرِيِّ قَالَ: «سَمِعْتُ أُمِّي تُحَدِّثُ أَن أُمَّهَا انطَلَقَتْ إِلَى الْبَيْتِ حَاجَّةً، وَالْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ لَهُ بَابَان، قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَيْتُ طَوَافِي دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنين، إِن بَعْضَ بَنيكِ بَعَثَ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ، وَإِن الناسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِي عُثْمَان، فَمَا تَقُولِين فِيهِ؟
قَالَتْ: لَعَنَ اللهُ مَن لَعَنهُ، لَعَنَ اللهُ مَن لَعَنهُ، لَا أَحْسَبُهَا إِلَّا قَالَتْ: ثَلَاثَ مِرَارٍ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ وَهُوَ مُسْندٌ فَخِذَهُ إِلَى عُثْمَان، وَإِني لَأَمْسَحُ الْعَرَقَ عَن جَبِين رَسُولِ اللهِ وَإِن الْوَحْيَ يَنزِلُ عَلَيْهِ، وَلَقَدْ زَوَّجَهُ ابْنتَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى إِثْرِ الْأُخْرَى، وَإِنهُ لَيَقُولُ: «اكْتُبْ عُثْمَان، قَالَتْ: مَا كَان اللهُ لِيُنزِلَ عَبْدًا مِن نبِيِّهِ بِتِلْكَ الْمَنزِلَةِ إِلَّا عَبْدًا عَلَيْهِ كَرِيمًا»([10]).
وروى مسلم في «صحيحه» عَن يَحْيَى بْن سَعِيدِ بْن الْعَاصِ، أَن سَعِيدَ ابْن الْعَاصِ أَخْبَرَهُ أَن عَائِشَةَ زَوْجَ النبِيِّ ق وَعُثْمَان حَدَّثَاهُ: «أَن أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْذَن عَلَى رَسُولِ اللهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ، لَابِسٌ مِرْطَ عَائِشَةَ، فَأَذِن لِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ، ثُمَّ انصَرَفَ، ثُمَّ اسْتَأْذَن عُمَرُ، فَأَذِن لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ، ثُمَّ انصَرَفَ، قَالَ عُثْمَان: ثُمَّ اسْتَأْذَنتُ عَلَيْهِ فَجَلَسَ وَقَالَ لِعَائِشَةَ: «اجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ» فَقَضَيْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي، ثُمَّ انصَرَفْتُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَالِي لَمْ أَرَكَ فَزِعْتَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ب كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَان؟! قَالَ رَسُولُ اللهِ : «إِن عُثْمَان رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِني خَشِيتُ إِن أَذِنتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ ألَّا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ»»([11]).
فهذا هو الثابت من موقف أم المؤمنين عائشة تجاه عثمان ومقتله، وهي رواية فضائل، مع إنكار وشدة على قاتليه، وقد تواتر عنها المطالبة بالقصاص ممن قتله، مع إنكار ما زوَّره السبئية على لسانها.
ثانيًا: علي بن أبي طالب هو من دفع الناس إلى مطالبته بدم عثمان :
لماذا يتباكى الرافضة اليوم على مقتل عثمان وهم من كفَّروه، ومدحوا قاتليه وعدُّوهم من سلفهم الصالح، بل من خُلَّص الأصحاب؟! يقول فيهم جعفر مرتضى العاملي وعدَّ منهم: «مالك الأشتر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق الخزاعي، الذي يقال: إنه وثب وجلس على صدر عثمان، وطعنه تسع طعنات، ثلاث منهن لله، والباقي لما يجده في صدره عليه»([12]). وقد رووا عن علي أنه قال عن عثمان: «الله قتله، وأنا معه»([13]).
وروت الشيعة عن علِي أنه هو نفسه الذي طلب من الناس أن يأتوه للمطالبة بالقصاص من قتلة عثمان، فرووا عنه قوله:
«وهؤلاء قتلة عثمان في عسكري يقرون بقتله ويرضون بحكمي عليهم، فليأتني ولد عثمان ومعاوية إن كان وليهم ووكيلهم فليخاصموا قتلته، وليحاكموهم حتى أحكم بينهم بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وآله-... ثم خرج أبو هريرة وأبو الدرداء فإذا نحو من عشرين ألف رجل مقنعين في الحديد فقالوا: نحن قتلة عثمان مقرون راضون بحكم عليٍّ S علينا ولنا، فليأتنا أولياء عثمان فليحاكمونا إلى أمير المؤمنين S في دم أبيهم، وإن وجب علينا القود أو الدية اصطبرنا لحكمه وسلمنا»([14]).
ولا يظن أحد أن عليًّا -في عقيدةِ الشيعة- كان يخطّئ قتلة عثمان، إنما كان يصوب فعلهم ويرضى به، بل قالوا صراحة: «إن عليًّا لم يُخطئ قتلة عثمان».
يقول جعفر مرتضى العاملي: «إنه لم يخطِّئ قاتلي عثمان، بل أعطاهم الحق في الجزع من أفعاله، ولكنه خطأهم في طريقة ومقدار جزعهم، فقال: استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع»([15]).
فلماذا التخطئة لأم المؤمنين وقد فعلت -في الرواية المكذوبة- ما طلبه علي بن أبي طالب فطالبت بدم عثمان والقصاص من قتلته، بل وكذلك فعل معاوية وأهل الشام؟!
أقرأ أيضا .. زعمهم أن عليًّا أحبُّ إلى النبي من عائشة وأبيها
([1]) تاريخ الطبري (4/458 -459).
([2]) بحار الأنوار، المجلسي (32/126).
([3]) جواهر التاريخ، علِي الكوراني العاملي (1/206).
([4]) تفسير الألوسي (11/192).
([5]) الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزي (3/160).
([6]) الضعفاء والمتروكين، النسائي (ص187).
([7]) الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزي (2/35)، قال البرزنجي: «في إسناده مبهم وضعفاء». صحيح وضعيف تاريخ الطبري (8/647).
([8]) تاريخ خليفة بن خياط (ص176).
([9]) تاريخ خليفة بن خياط (ص175 -176).
([10]) مسند أحمد، ط الرسالة (43/294).
([11]) صحيح مسلم (4/1866).
([12]) الصحيح من سيرة الإمام علي S، جعفر مرتضى العاملي (18/140).
([13]) «نهج الحق» مطبوع مع «دلائل الصدق» (3/187)، وبحار الأنوار (31/163 و164 و308 و165)، والشافي (4/230)، وشرح نهج البلاغة، المعتزلي (2/128).
([14]) بحار الأنوار، المجلسي (33/145).
([15]) الصحيح من سيرة الإمام علي S، جعفر مرتضى العاملي (18/139).
لتحميل الملف pdf