جاء عند الحاكم في «المستدرك» عَن أَبِي وَائِلٍ، عَن مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ رضي الله عنها: «إِني رَأَيْتُني عَلَى تَلٍّ وَحَوْلِي بَقَرٌ تُنْحَرُ»، فَقُلْتُ لَهَا: لَئِن صَدَقَتْ رُؤْيَاكِ لَتَكُونن حَوْلَكِ مَلْحَمَةٌ، قَالَتْ: «أَعُوذُ بِاللهِ مِن شَرِّكَ، بِئْسَمَا قُلْتَ»، فَقُلْتُ لَهَا: فَلَعَلَّهُ إِن كَان أَمْرًا سَيَسُوءُكِ، فَقَالَتْ: «وَاللهِ لَأَن أَخِرَّ مِن السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن أَن أَفْعَلَ ذَلِكَ»، فَلَمَّا كَان بَعْدُ ذُكِرَ عِندَهَا أَن عَلِيًّا ا قَتَلَ ذَا الثُّدَيَّةِ، فَقَالَتْ لِي: «إِذَا أَنتَ قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَاكْتُبْ لِي ناسًا مِمَّن شَهِدَ ذَلِكَ مِمَّن تَعْرِفُ مِن أَهْلِ الْبَلَدِ»، فَلَمَّا قَدِمْتُ وَجَدْتُ الناسَ أَشْيَاعًا فَكَتَبْتُ لَهَا مِن كُلِّ شِيَعٍ عَشَرَةً مِمَّن شَهِدَ ذَلِكَ قَالَ: فَأَتَيْتُهَا بِشَهَادَتِهِمْ فَقَالَتْ: «لَعَن اللهُ عَمْرَو بْن الْعَاصِ؛ فَإِنهُ زَعَمَ لِي أَنهُ قَتَلَهُ بِمِصْرَ».
قال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْن وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: رواية الحاكم لا تصح
لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن.
صحة الإسناد لا يلزم منها صحةُ المتن كما هو متقرر عند أهل الحديث، قال الحافظ: «ولا يلزم من كون رجال الإسناد من رجال الصحيح، أن يكون الحديث الوارد به صحيحًا؛ لاحتمال أن يكون فيه شذوذٌ أو علةٌ، وقد وجد هذا الاحتمال هنا، فإنها رواية شاذة»([2]).
وقال الزيلعي: «وَصِحَّةُ الْإِسْنادِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثِقَةِ الرِّجَالِ، وَلَوْ فُرِضَ ثِقَةُ الرِّجَالِ لَمْ يَلْزَمْ مِنهُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ، حَتَّى يَنتَفِيَ مِنهُ الشُّذُوذُ وَالْعِلَّةُ»([3]).
وقال الصنعاني: «فائدة مهمة عزيزة النقل كثيرة الجدوى والنفع، وهي: من المقرر عندهم أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن؛ إذ قد يصح السند، أو يحسن الاجتماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط دون المتن لشذوذ أو علة، وقد لا يصح السند ويصح المتن من طريق أخرى، فلا تنافي بين قولهم هذا حديث صحيح؛ لأن مرادهم به اتصال سنده مع سائر الأوصاف في الظاهر لا قطعًا؛ لعدم استلزام الصحة لكل فرد من أسانيد ذلك الحديث، فعلم أن التقييد بصحة السند ليس صريحًا في صحة المتن ولا ضعفه»([4]).
إذًا صحةُ السند شيءٌ، والقولُ بأن الحديث صحيحٌ شيءٌ آخر؛ إذ إن صحة السند هي إحدى شروط صحة الحديث، فلا بد من تحقق باقي الشروط، وهي السلامة من الشذوذ والعلة.
وعليه، فإذا حَكَم عالمٌ على الإسناد بالصحة، فليس معناه أنه قد حكم بصحة الرواية.
ثم إن قول الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين»، لا يعتد به أهل العلم بالحديث، قال ابن القيم: «قَالُوا: وَأما تَصْحِيحُ الْحَاكِم، فَكَمَا قَالَ الْقَائِل:
فَأَصبَحتُ مِن لَيلى الغَداةَ كَقابِض
عَلى الماءِ خانتهُ فُروجُ الأَصابِعِ
وَلَا يعبأ الْحفاظُ أطباءُ علل الحَدِيث بتصحيحِ الْحَاكِم شَيْئًا، وَلَا يرفعون بِهِ رَأْسًا الْبَتَّةَ، بل لَا يعدل تَصْحِيحه، وَلَا يدل على حسن الحَدِيث، بل يصحح أَشْيَاءَ مَوْضُوعَةً بِلَا شكّ عِند أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، وَإِن كَان من لَا علم لَهُ بِالْحَدِيثِ لَا يعرف ذَلِك، فَلَيْسَ بمعيار على سنة رَسُول الله ق، وَلَا يعبأ أهل الحَدِيث بِهِ شَيْئًا»([5]).
وأما حكم الذهبي على أحاديث «المستدرك» في كتابه «التلخيص» فعليه ملاحظات كثيرة([6])، منها أن الذهبي ألَّفه في مقتبل عمره، واستغرقت مدة تأليفه ثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا، وهي فترة وجيزة بالنظر إلى عدد أحاديث مستدرك الحاكم التي تقرب من تسعة آلاف وخمسمائة حديث.
وقد وقع الذهبي فيه في أوهام كثيرة منها بعض موافقاته للحاكم، وأحيانًا في كلامه على بعض الرواة، وعُذره في ذلك أنه ألفه في مقتبل العمر، ويتضح هذا في اختلاف رأيه في بعض المسائل وفي بعض الرجال بين كتابه «التلخيص» وبين كتبه المتأخرة كـ«ميزان الاعتدال».
وقد ذكر الذهبي في سيره أثناء كلامه عن المستدرك قائلا: «وَبِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ كِتَابٌ مُفِيدٌ قَدِ اختصرتُهُ، وَيعوزُ عَمَلًا وَتحريرًا»([7]).
الشذوذ:
وقد اختلف على الأعمش في هذا الخبر فيما أخرجه ابن أبي شيبة قال: حَدَّثَنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَن شَقِيقٍ، عَن مَسْرُوقٍ، عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: «رَأَيْتُني عَلَى تَلٍّ كَأَن حَوْلِي بَقَرًا يُنحَرْن» فَقَالَ مَسْرُوقٌ: إِن اسْتَطَعْتِ ألَّا تَكُوني أَنتِ هِيَ فَافْعَلِي، قَالَ: «فَابْتُلِيَتْ بِذَلِكَ T»([8]).
ورواية أبي معاوية عن الأعمش هي الراجحة على رواية جرير -وهو ابن عبد الحميد-؛ لأن أبا معاوية كان أحفظَ الناس لحديث الأعمش، «قال معاوية بن صالح: سألت ابن معين: مَن أثبتُ أصحابِ الأعمش؟ فقال: أبو معاوية، بعد شعبة، وسفيان.
وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أبو معاوية أحبُّ إليك في الأعمش أو وكيع؟ فقال: أبو معاوية أعلم به.
وقال ابن أبي خيثمة: قيل لابن معين: أيهما أحب إليك في الأعمش، عيسى بن يونس أو حفص بن غياث؟ قال: أبو معاوية.
وقال أيضًا عن ابن معين: قال لنا وكيع: من تلزمون؟ قلنا: نلزم أبا معاوية، قال: أما إنه كان يعد علينا في حياة الأعمش ألفًا وسبعمائة.
وقال الدوري: قلت لابن معين: كان أبو معاوية أحسنهُم حديثًا عن الأعمش؟ قال: كانت الأحاديث الكبار العالية عنده»([9]).
وخلاصة ذلك: شذوذ رواية الحاكم؛ لمخالفة جرير بن عبد الحميد لأبي معاوية الضرير.
والحديث الشاذ من أقسام الضعيف، ومن ثم فزيادة «لعن الله عمرو بن العاص» التي لم ترد في رواية أبي معاوية ضعيفة غير مقبولة.
الرواية لا تصح بإسناديها.
الرواية بكلا سَندَيْهَا عند الحاكم وابن أبي شيبة لا تصح؛ لِعَنعَنة الأعمش، وهو باتفاق أهل العلم مدلس ولم يصرح بالتحديث([10]).
قال ابن حبان: «سُلَيْمَان بْن مِهْرَان الْأَعْمَش... كَان مدلسًا»([11])، وقال السيوطي: «سليمان الأعمش مشهور به بالتدليس»([12])، وقال العلائي: «سليمان بن مهران الأعمش، الإمام، مشهور بالتدليس، مكثر منه»([13]).
ولا يكون المدلس حجةً حتى يصرح بالتحديث، قال الخطيب البغدادي: «قال محَمَّدُ بْن أَحْمَدَ بْن يَعْقُوبَ: ثنا جَدِّي قَالَ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْن مَعِين عَن التَّدْلِيسِ، فَكَرِهَهُ وَعَابَهُ، قُلْتُ لَهُ: أَفَيَكُون الْمُدَلِّسُ حُجَّةً فِيمَا رَوَى أَوْ حَتَّى يَقُولَ: حَدَّثَنا وَأَخْبَرَنا؟ فَقَالَ: لَا يَكُون حُجَّةً فِيمَا دَلَّسَ. وَقَالَ جَدِّي: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْن الْمَدِينيِّ عَن الرَّجُلِ يُدَلِّسُ أَيَكُون حُجَّةً فِيمَا لَمْ يَقُلْ: حَدَّثَنا؟ قَالَ: إِذَا كَان الْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّدْلِيسَ فَلَا، حَتَّى يَقُولَ: حَدَّثَنا»([14]).
زد على ذلك: أن تدليس الأعمش كان تدليس التسوية، قال في الكفاية: «وَرُبَّمَا لَمْ يُسْقِطِ الْمُدَلِّسُ اسْمَ شَيْخِهِ الَّذِي حَدَّثَهُ، لَكِنهُ يُسْقِطُ مِمَّن بَعْدَهُ فِي الْإِسْنادِ رَجُلًا يَكُون ضَعِيفًا فِي الرِّوَايَةِ، أَوْ صَغِيرَ السِّن، وَيَحْسُن الْحَدِيثُ بِذَلِكَ؛ وَكَان سُلَيْمَان الْأَعْمَشُ، وَسُفْيَان الثَّوْرِيُّ، وَبَقِيَّةُ بْن الْوَلِيدِ يَفْعَلُون مِثْلَ هَذَا»([15]).
وفي هذه الرواية عَنعَن الأعمش في شيخه وشيخ شيخه، فتسقط ولا يحتج بها عند أهل العلم.
كان في الأعمش تشيعٌ.
معلوم أن الأعمش كان فيه تشيعٌ؛ قال الحافظ في ترجمته: «وكان فيه تشيع»([16])، وقال: «وينبغي أن يقيد قولنا بقبول رواية المبتدع إذا كان صدوقًا ولم يكن داعيةً، بشرط ألَا يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشدها، فإنا لا نأمن حينئذ عليه غلبة الهوى، والله الموفق.
فقد نص على هذا القيد في هذه المسألة: الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجُوزَجَاني شيخُ النسائي، فقال في مقدمة كتابه في «الجرح والتعديل»: ومنهم زائغ عن الحق، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثه لكنه مخذول في بدعته مأمون في روايته، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف، إلا ما يقوي به بدعته فيتهم بذلك»([17]).
وقال المعلمي: «ومن المقرر عند أهل النقد: أن رواية المبتدع لا تقبل فيما يؤيد به بدعته»([18]).
وعليه تسقط روايته لو سلمنا جدلًا بصحتها؛ لأنها مؤيدة لبدعته، ونحن لو سلمنا جدلًا بصحة الرواية، لكانت ساقطةً بشذوذِ ونكارةِ المتن، ومخالفتها لأصول الإسلام التي أجمعت عليها الأمة، من عدالة الصحابة جميعًا وعدم كذبهم أبدًا، قال أنس بن مالك: «والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب»([19]) حسنه الألباني([20]).
ثانيًا: لو سلمنا بصحة الرواية فاللعن ليس بقادح عند الرافضة.
لُعن أصحاب الأئمة في كتب الرافضة، ومع ذلك قبلوا منهم واحتملوا عنهم الرواية كما احتملوا عنهم الديانة، فهذا الأصبغ بن نباته ثقة، ومن خواص أصحاب علي، ومع ذلك ملعون هو وأصحابه على لسان رسول الله ق.
جاء في كتاب «العوالم» للإمام الحسين: «المناقب لابن شهر آشوب: الأصبغ بن نباتة، قال: سألت الحسين فقلت: سيدي، أسألك عن شيء أنا به موقن، وإنه من سر الله وأنت المسرور إليه ذلك السر؟ فقال: يا أصبغ، أتريد أن ترى مخاطبة رسول الله -صلى الله عليه وآله- لأبي دون يوم مسجد قبا؟ قال: هذا الذي أردت، قال: قم، فإذا أنا وهو بالكوفة، فنظرت فإذا المسجد من قبل أن يرتد إلي بصري فتبسم في وجهي، ثم قال: يا أصبغ، إن سليمان بن داود أُعطِيَ الريح «غدوها شهر ورواحها شهر»، وأنا قد أُعطِيْتُ أكثر مما أعطي سليمان، فقلت: صدقت والله يا بن رسول الله.
فقال: نحن الذين عندنا علم الكتاب وبيان ما فيه، وليس «عند أحد» من خلقه ما عندنا؛ لأنا أهل سر الله، فتبسم في وجهي، ثم قال: نحن آل الله وورثة رسوله، فقلت: الحمد لله على ذلك، (ثم) قال لي: ادخل فدخلت، فإذا أنا برسول الله -صلى الله عليه وآله- مختبئ في المحراب بردائه، فنظرت فإذا أنا بأمير المؤمنين قابض على تلابيب الأعسر، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وآله- يعض على الأنامل، وهو يقول: بئس الخلف خلفتني أنت وأصحابك، عليكم لعنة الله ولعنتي»([21]).
فلماذا لا تلعنون من لعنه رسول الله ق عندكم؟! ثم تتمسكون برواية شاذة فيها لعن عائشة –المطعون فيها عندكم- لصحابي مطعون فيه عندكم!
بل نحن نلزمكم أن مهديكم ملعون في دينكم، فقد رويتم قوله -صلى الله عليه وآله- قال: «إذا ظهرت البدع في أمتي، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله»([22]).
والرواية مؤيدة بأصول الإسلام التي بنيت على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وبه يلزم لعن مهدي الشيعة؛ كونه كاتمًا للعلم في زمان ظهرت فيه البدع وطارت كل مطار.
اقرأ أيضا| زعمهم أن عليًّا أحبُّ إلى النبي من عائشة وأبيها
([1]) المستدرك على الصحيحين، الحاكم (4/14).
([2]) النكت على كتاب ابن الصلاح، ابن حجر (1/134).
([3]) نصب الراية، الزيلعي (1/347).
([4]) توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، الصنعاني (1/177).
([5]) الفروسية (ص245).
([6]) كلام الذهبي إنما هو تلخيص لقول الحاكم في المستدرك، وقد يتعقبه أحيانا، وليس إقرارًا؛ فليتنبه لذلك.
([7])الفروسية (ص245).
([8]) مصنف ابن أبي شيبة (6/181).
([9]) تهذيب التهذيب، ابن حجر (9/138).
([10]) تقريب التهذيب (ص254).
([11]) الثقات، ابن حبان (4/302).
([12]) أسماء المدلسين (ص55).
([13]) جامع التحصيل (ص188).
([14]) الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي (ص362).
([15]) الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي (ص364).
([16]) تهذيب التهذيب (4/223).
([17]) لسان الميزان، ت أبي غدة (1/204).
([18]) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (2/709).
([19]) تفسير الطبري (8/666)، مسند البزار (13/482). سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (7/1420).
([20]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (7/1420).
([21]) العوالم، الإمام الحسين (ص50).
([22]) الكافي، الكليني (1/54).
لتحميل الملف pdf