شبهات وردود

قولهم: كيف يعز الإسلام بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد كان خائفًا في بيته؟

الشبهة العاشرة

قولهم: كيف يعز الإسلام بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد كان خائفًا في بيته؟

 

محتوى الشبهة:

واستدلوا على ذلك برواية البخاري: "عن زَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ خَائِفًا، إِذْ جَاءَهُ العَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو، عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: "زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي إِنْ أَسْلَمْتُ، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْكَ، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ، فَخَرَجَ العَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمُ الوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الخَطَّابِ الَّذِي صَبَا، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَرَّ النَّاسُ"([1]).

 

الرد التفصيلي على الشبهة:

أولاً: حديث اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، حديث صحيح: عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَى اللهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ". قال الترمذي:" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ". ([2])

قَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ فِي (مُخْتَصَرِ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ) لِلسَّخَاوِيِّ: "حَدِيثُ: «اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ». رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي (جَامِعِهِ) وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ مَرْفُوعًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي (مُسْتَدْرَكِهِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ أَيِّدِ الدِّينَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ». وَفِي لَفْظٍ: أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَاصَّةً». وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. قُلْتُ: وَأَمَّا مَا يَدُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِأَحَدِ الْعُمَرَيْنِ، فَلَا أَعْلَمُ لَهُ أَصْلًا.

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: حَدِيثُ: (اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ) إِلَخْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَاصَّةً». وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ"([3]).

وأما من رد الحديث فقد رده من ناحية المتن، وكلامه مردود عليه، قال العلامة الملا علي القاري: "وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ النَّارَنْجِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ: اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ دِينُ الْإِسْلَامِ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِزَّ عُمَرَ بِالدِّينِ أَوْ أَبَا جَهْلٍ. أَقُولُ: لَيْسَ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ مَحْذُورٌ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس:14]. أَيْ: قَوَّيْنَا الرَّسُولَيْنِ وَمَا أَتَيَا مِنَ الدِّينِ بِهِ، أَوْ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ r: "زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ" عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ الْقَلْبِ فِي الْكَلَامِ كَمَا فِي: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ؛ وَلِذَا وَرَدَ أَيْضًا: «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ». وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَطَابَقَتِ الدِّرَايَةَ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْطِئَةِ، ثُمَّ لَا شَكَّ فِي حُصُولِ إِعْزَازِ الدِّينِ بِهِ t أَوَّلًا: مِنْ إِخْفَائِهِ إِلَى إِعْلَانِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأنفال:64].

وَهُوَ كَمَالُ الْأَرْبَعِينَ إِيمَاءً إِلَى ذَلِكَ. وَآخِرًا مِنْ فُتُوحَاتِ الْبِلَادِ وَكَثْرَةِ إِيمَانِ الْعِبَادِ وَفِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ غِلْظَتِهِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {َحمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] إِشْعَارًا إِلَيْهِ، بَلْ وَمَا تَمَّ أَمْرُ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ وَجِهَادِهِ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، وَمَا فُتِحَ بَابُ النِّزَاعِ وَالْمُخَالَفَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ وَبَعْدَ غَيْبَتِهِ، وَلَعَلَّهُ r أَشَارَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ). وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَالزُّهْرِيُّ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ بِإِسْلَامِ عُمَرَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ"([4]).

 

ثانيًا: سبب خوف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو جالس في بيته هو قتاله للمشركين جميعًا، وضربه لهم، وضربهم له، فاجتمعوا جميعًا على قتله بعد معركة غير متكافئة، فأي شجاعة أعظم من أن يقاتل عمر بن الخطاب t بلدًا هي الأقوى بين العرب، فلما اجتمعوا لقلته خاف من ذلك، وهذا جبلي، ولو حملنا خوفه على خوف فوت النصرة للإسلام والمسلمين في زمان أطول بالقتل، فيكون الخوف على الإسلام لا على النفس.

ويوضح ذلك رواية ابن هشام في (السيرة)، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ أَبِي عُمَرُ قَالَ: أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ. قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ، وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ، وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ كُلَّ مَا رَأَيْتُ، حَتَّى جَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَعَلِمْتَ يَا جَمِيلُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ: وَدَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّد؟ قَالَ: فو الله مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَاتَّبَعَهُ عُمَرُ، وَاتَّبَعْتُ أَبِي، حَتَّى إذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، أَلَا إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ.  قَالَ: ويَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذَبَ، وَلَكِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَثَارُوا إلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِهِمْ.

قَالَ: وَطَلِحَ، فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَحْلِفُ باللَّه أَنْ لَوْ قَدْ كُنَّا ثَلَاثَ ماِئَةِ رَجُلٍ (لَقَدْ) تَرَكْنَاهَا لَكُمْ، أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ حِبْرَةٌ، وَقَمِيصٌ مُوَشًّى، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: صَبَا عُمَرُ، فَقَالَ: فَمَهْ، رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا! خَلُّوا عَنْ الرجل. قَالَ: فوالله لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ: يَا أَبَتْ، مَنْ الرَّجُلُ: الَّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْكَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أَسْلَمْتُ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ؟ فَقَالَ: ذَاكَ، أَيْ بُنَيَّ، الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ"([5]).

  

ثالثاً: نبي الله موسى عليه السلام، أكثر نبي ورد على لسانه لفظ الخوف، ولا يقول مسلم أن موسى u كان جبانًا، ومع ذلك فقد قال {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14].

فهنا موسى عليه السلام خاف من القتل أيضا، فإذا اتهمتم عمر رضي الله عنه بالجبن لذلك وجب اتهام موسى u بنفس التهمة، وتحملوا نتيجة الطعن في أنبياء الله كعادتكم.

 رابعاً: طلب موسى عليه السلام من ربه أن يشد أزره بأخيه {وَاجعَل لي وَزيرًا مِن أَهلي ﴿٢٩﴾ هارونَ أَخِي ﴿٣٠﴾ اشدُد بِهِ أَزري} [طه:29-31]. فقال له الله: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [سورة القصص:35]. ونفس الأمر مع عمر t لما اطمأن بكلام حليف قبيلته العاص بن وائل السهمي.

 يقول العلامة علي القاري: "(أَمِنتُ) بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْمِيم وَسُكُون النُّون وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق من الْأمان، أَي زَالَ خوفي؛ لِأَن الْعَاصِ كَانَ مُطَاعًا فِي قومه، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِمد الْهمزَة وَهُوَ خطأ، فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم قبل ذَلِك، وَذكر عِيَاض أَن فِي رِوَايَة الْحميدِي بِالْقصرِ أَيْضا، لكنه بِفَتْح التَّاء وَهُوَ أَيْضا خطأ؛ لِأَنَّهُ يصير من كَلَام الْعَاصِ بن وَائِل وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ من كَلَام عمر t، يُرِيد أَنه أَمن لما قَالَ لَهُ الْعَاصِ ابْن وَائِل تِلْكَ الْمقَالة، قَوْله "قد سَالَ بهم الْوَادي"، أَي: وَادي مَكَّة، وَهُوَ كِنَايَة عَن امتلائه بِالنَّاسِ، قَوْله فَقَالَ أَي الْعَاصِ قَوْله هَذَا ابْن الْخطاب يَعْنِي عمر بن الْخطاب، قَوْله الَّذِي صَبأ أَي مَال عَن دين آبَائِهِ، وَخرج قَوْله فكر أَي رَجَعَ"([6]).

وقال القسطلاني: "(فخرج العاص فلقي الناس قد سال) بغير همز أي امتلأ (بهم الوادي) وادي مكة (فقال) العاص: (أين تريدون؟ فقالوا: نريد هذا ابن الخطاب) عمر -رضي الله عنه- (الذي صبا) أي خرج عن دين آبائه (قال) العاص: (لا سبيل) لكم (إليه فكرَّ الناس) بتشديد الراء أي رجعوا"([7]).

وبه يتبين أن خوف عمر t كان بعد قتال بينه وبين قومه ولا يفعل ذلك إلا أشجع الناس.

خامسا: قد اعترف بذلك من شاهد واقع الحال من أصحاب النبي r. روى البخاري عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ"([8]). والروايات في ذلك كثيرة.

 

سادساً: إذا كان مثل هذا الخوف يطعن في عمر بن الخطاب t فما بال مهدي الشيعة لازال خائفًا من القتل؟! فقد روى الشيعة أن رسول الله r قال: "لا بد للغلام من غيبة، فقيل له: ولم يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل".

وعن زرارة قال: سمعت أبا جعفر يقول: "إن للغلام غيبة قبل ظهوره، قلت: ولم؟ قال: يخاف، وأومأ بيده إلى بطنه، قال زرارة: يعني القتل"([9])، وفي رواية: يخاف على نفسه الذبح"([10]).

وعن الباقر قال: إذا ظهر قائمنا أهل البيت، قال {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء:21]([11]).

والذي خاف ساعة أو ساعتين في بيته ثم خرج عزيزا مستعلنا بدينه، خير ممن خاف أكثر من ألف عام من جندي إلى الحفر!

ثم قد رويتم في مختصر البصائر: "عن جابر قال: قال أبو عبد الله: إن الله عز وجل نزع الخوف من قلوب أعدائنا، وأسكنه في قلوب شيعتنا، فإذا جاء أمرنا نزع الخوف من قلوب شيعتنا، وأسكنه في قلوب أعدائنا، فأحدهم أمضى من سنان، وأجرئ من ليث، يطعن عدوه برمحه، ويضربه بسيفه، ويدوسه بقدمه"(1).

قال الأميني: "في كتاب (الدرجات الرفيعة في طبقات الإمامية من الشيعة) روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع) أنه قال لبعض أصحابه يا فلان ... ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قتل فبويع الحسن ابنه وعوهد، ثم غدر به وأسلم، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه، وانتهب عسكره، وعوجلت خلاخل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودم أهل بيته وهم قليل حق قليل، ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفا غدروا به، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم فقتلوه، ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام ونقصى ونمتهن ونحرم ونقتل ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء في كل بلدة فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس"([12]).

قلت: فمن أذلكم غير عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قضى على إمبراطوريتي الروم والفرس، وأطفأ نار المجوس، ومع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمثاله من المؤمنين الصادقين من أصحاب نبينا ﷺ؟.

 

([1]) صحيح البخاري (3864).

([2]) مسند أحمد في المسند (9/506)، سنن الترمذي ت بشار (6/58). وقال عنه الشيخ الألباني في تعليقه على (مشكاة المصابيح) (3/1704):"حسن صَحِيح". وانظر: صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (2/340).

([3]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ملا علي القاري (9/3900).

([4]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، الملا على القاري (9/3900).

([5]) سيرة ابن هشام ت السقا- (1/348-349). وأخرجه ابن حبان كما في موارد الظمآن (2/218)، والحاكم في المستدرك (3/85) مختصرا . وقال ابن كثير في البداية والنهاية (2/39) : وهذا إسناد جيد قوي.

([6]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (5/17).

([7]) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (6/ 191).

([8]) صحيح البخاري (5/11).

([9]) كمال الدين (321، 325)، علل الشرائع (1/246)، غيبة النعماني (118)، غيبة الطوسي (202)، البحار (52/91، 95، 97، 98، 146)، إثبات الهداة (3/ 443، 444، 472، 487، 571).

([10]) كمال الدين (437)، البحار (52/97)، إثبات الهداة (3/487).

([11]) غيبة النعماني (116)، كمال الدين (308)، البحار (52/157، 281، 292، 385)، نور الثقلين (4/49)، تأويل الآيات (1/388)، البرهان (3/183)، إثبات الهداة (3/468، 535، 562، 583).

([12]) أعيان الشيعة (1/26).


لتحميل الملف pdf

تعليقات