شبهات وردود

زعم الشيعة أن عمر رضي الله عنه نهى عن متعة الحج مع أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها

الشبهة الخمسون

زعم الشيعة: أن عمر رضي الله عنه نهى عن متعة الحج مع أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها.

 

محتوى الشبهة:

من الشبهات التي يثيرها القوم حول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان ينهى الناس عن متعة الحج، مع أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلها. والحديث رواه النسائي وغيره عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ، يَقُولُ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَقَدْ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» يَعْنِي الْعُمْرَةَ فِي الْحَجِّ"([1]).

قال الفضل بن شاذان بعد أن نقل رواية تمتع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن عمر رضي الله عنه نهى عنها، قال: "فهذه الرّواية لا تنكرونها قد روتها الفقهاء والعلماء؛ فلئن صحّحتم الرّواية، وصحّحتم على عمر أنّه نهى عمّا أمر به رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله لقد رميتموه بالعظيم، وإن أنتم لم تصحّحوا الرّواية عن النّبيّ (ص) أنّه أمر بمتعة الحجّ لقد رميتم فقهاءكم وعلماءكم بالكذب على رسول الله صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله بروايتكم"([2]).

الرد التفصيلي على الشبهة:

أولاً: اتفق أهل العلم على أنه يجب على من يتكلم في حديث أن يجمع كل ما ورد في المسألة حتى ينفي عن النصوص تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، قال الحافظ ابن حجر: "الْمُتَعَيَّنَ عَلَى مَنْ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْأَحَادِيثِ أَنْ يَجْمَعَ طُرُقَهَا ثُمَّ يَجْمَعَ أَلْفَاظَ الْمُتُونِ إِذَا صَحَّتِ الطُّرُقُ وَيَشْرَحَهَا عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْحَدِيثَ أَوْلَى مَا فُسِّرَ بِالْحَدِيثِ"([3]).

وعليه نقول بالرجوع إلى الروايات في الباب وجدنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثبت عنه النهي عن متعة الحج وثبت عنه القول بأن التمتع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

فقد قال لرجل أحرم تمتعًا: "هديت لسنة نبيك"، فعن شَقِيق بْن سَلَمَةَ أَبي وَائِلٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَغْلِبَ يُقَالُ لَهُ: الصُّبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ فَأَقْبَلَ فِي أَوَّلِ مَا حَجَّ، «فَلَبَّى بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ جَمِيعًا»، فَهُوَ كَذَلِكَ يُلَبِّي بِهِمَا جَمِيعًا، فَمَرَّ عَلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَأَنْتَ أَضَلُّ مِنْ جَمَلِكَ، هَذَا فَقَالَ الصُّبَيُّ: فَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي حَتَّى لَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم "([4]).

ولو قلنا أن هذا قران وليس تمتعًا، وهذا الواضح من الرواية، فهو بلا شك من الإحرام بالعمرة في أشهر الحج. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: "لَوِ اعْتَمَرْتُ، ثُمَّ اعْتَمَرْتُ، ثُمَّ حَجَجْتُ فَتَمَتَّعْتُ"([5]).

يقول الجصاص معلقًا على الرواية: "فَفِي هَذَا الْخَبَرِ اخْتِيَارُهُ لِلْمُتْعَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَا كَانَ مِنْهُ فِي أمر المتعة عَلَى وَجْهِ اخْتِيَارِ الْمَصْلَحَةِ لِأَهْلِ الْبَلَدِ تَارَةً وَلِعِمَارَةِ الْبَيْتِ أُخْرَى"([6]).

فها هو عمر رضي الله عنه يريد التمتع، ويقول لمن فعله أو فعل قريبًا منه في مسألة الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، ومع ذلك يقول: "هديت لسنة نبيك"، فهل يقول عاقل أن نهي عمر رضي الله عنه كان تحريمًا شرعيًّا؟! إنما كان النهي مؤقتًا لمصالح شرعية سياسية تأتي معنا في البحث، ومع ذلك فقد أخذ الشيخ الألباني من ذلك أن عمر تراجع عن فتواه في ذلك.

 قال الشيخ الألباني: "وقد صح عن عمر الرجوع إلى القول بها في الحج، روينا من طريق شعبة عن سلمة بن كهيل عن طاووس عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: لو اعتمرت في سنة مرتين ثم حججت لجعلت مع حجتي عمرة، ورويناه أيضا من طريق سفيان عن سلمة بن كهيل به، ورويناه أيضا من طرق، فقد رجع عمر رضي الله عنه إلى القول بالمتعة اتباعا للسنة"([7]).

قال شيخ الإسلام: "فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمَا الْمُتْعَةُ قَوْلًا وَفِعْلًا؛ فَهَذَا عُمَرُ يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ فَعَلَ الْمُتْعَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ"([8]).

ثانيًا: من القواعد الفقهية الكبرى المتفق عليها أن: "تَصَرُّفُ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ"([9]).

ولذلك قال أهل العلم إن الحاكم يجوز له أن ينهى عن مباح لدخول في أفضل لتقريب الناس إلى الصلاح.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فقَدْ يَنْهَى السُّلْطَانُ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَالْمُسْتَحَبَّاتِ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ الْحَلَالُ حَرَامًا"([10]).

إذًا طالما أن النهي لم يخالف به شرعًا، بل نهاهم عن مباح لدخول في أفضل دل عليه الشرع فهذا من السياسة الشرعية للحاكم الواجب اتباعها.

قال ابن القيم: "فَقَالَ شَافِعِيٌّ: لَا سِيَاسَةَ إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ. فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: السِّيَاسَةُ مَا كَانَ فِعْلًا يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ، فَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك: " إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ " أَيْ: لَمْ يُخَالِفْ مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ: فَصَحِيحٌ. وَإِنْ أَرَدْت: لَا سِيَاسَةَ إلَّا مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ: فَغَلَطٌ"([11]).

والخلاصة: أن الحاكم إذا ألزم الناس بالمفضول وأمرهم بترك الفاضل لمصلحة شرعية معتبرة كان هذا من السياسة الشرعية التي لا يُنكَر بها عليه.

وقد خرَّج ابن القيم نهي عمر عن الحج على ذلك فقال: "فَصَلِّ فِي سِيَاسَة الصَّحَابَة فِي قِيَادَة الْأَمَة مِنْ بَعْده صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ ذَلِكَ: اخْتِيَارُهُ لِلنَّاسِ الْإِفْرَادَ بِالْحَجِّ، لِيَعْتَمِرُوا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. فَلَا يَزَالُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ مَقْصُودًا، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، وَأَنَّهُ أَوْجَبَ الْإِفْرَادَ. وَتَنَازَعَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَكْثَرَ النَّاسُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قَالَ: "يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاء. أَقُولُ لَكُمْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟، وَكَذَلِكَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ كَانُوا إذَا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَبِيهِ يَقُولُ: "إنَّ عُمَرَ لَمْ يُرِدْ مَا تَقُولُونَ"، فَإِذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: "أَفَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا، أَمْ عُمَرُ؟"([12]).

"وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ سِيَاسَةٌ جُزْئِيَّةٌ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ، فَظَنَّهَا مَنْ ظَنَّهَا شَرَائِعَ عَامَّةً لَازِمَةً لِلْأُمَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلِكُلٍّ عُذْرٌ وَأَجْرٌ وَمَنْ اجْتَهَدَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْأَجْرَيْنِ، وَهَذِهِ السِّيَاسَةُ الَّتِي سَاسُوا بِهَا الْأُمَّةَ وَأَضْعَافُهَا هِيَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ"([13]).

يقول الإمام الخادمي: " كُلَّ مُبَاحٍ أَمَرَ بِهِ الْإِمَامُ لِمَصْلَحَةٍ دَاعِيَةٍ لِذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ إتْيَانُهُ"([14]). وعليه فنهيه عنها هو من باب اختيار الأفضل للأمة، ولم ينه عنها تحريماً لها.

ثالثًاً: قد جاءت الروايات عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تذكر العلة التي لأجلها نهى عمر عن متعة الحج سياسة.

الرواية الأولى: عند البيهقي بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: "أَنَهَيْتَ عَنِ الْمُتْعَةِ؟، قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ كَثْرَةَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ، قَالَ: فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: مَنْ أَفْرَدَ الْحَجَّ فَحَسَنٌ، وَمَنْ تَمَتَّعَ فَقَدْ أَخَذَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم"([15]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وَإِنَّمَا وَجْهُ مَا فَعَلُوهُ أَنَّ عُمَرَ رَأَى النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا بِالْمُتْعَةِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَزُورُونَ الْكَعْبَةَ إِلَّا مَرَّةً فِي السَّنَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَجْعَلُونَ تِلْكَ السَّفْرَةِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَكَرِهَ أَنْ يَبْقَى الْبَيْتُ مَهْجُورًا عَامَّةَ السَّنَةِ، وَأَحَبَّ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي سَائِرِ شُهُورِ السَّنَةِ لِيَبْقَى الْبَيْتُ مَعْمُورًا مَزُورًا كُلَّ وَقْتٍ بِعُمْرَةٍ يَنْشَأُ لَهَا سَفَرٌ مُفْرَدٌ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ، حَيْثُ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجَّةِ ثَلَاثَ عُمَرٍ مُفْرَدَاتٍ.

وَعَلِمَ أَنَّ أَتَمَّ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ يَنْشَأَ لَهُمَا سَفَرٌ مِنَ الْوَطَنِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَرَ لِتَحْصِيلِ هَذَا الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ لِرَغْبَتِهِ طَرِيقًا إِلَّا أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ الِاعْتِمَارِ مَعَ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، فَقَدْ يَنْهَى السُّلْطَانُ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَالْمُسْتَحَبَّاتِ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ الْحَلَالُ حَرَامًا.

قَالَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ: "إِنَّمَا نَهَى عُمَرُ رضي الله عنه عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ مِنْ أَجْلِ أَهْلِ الْبَلَدِ؛ لِيَكُونَ مَوْسِمَيْنِ فِي عَامٍ، فَيُصِيبُ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَنْفَعَتِهِمَا"، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: "إِنَّمَا كَرِهَ عُمَرُ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ إِرَادَةَ أَلَّا يُعَطَّلَ الْبَيْتُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ". رَوَاهُمَا سَعِيدٌ"([16]).

قلت: فالعلة إذًا هي أن يظل البيت عامرًا بالطائفين والعمار، فأراد أن يخلص أشهر الحج للحج وباقي السنة للعمرة، حتى لا يتعطل البيت في غير أشهر الحج، فكان النهي؛ لتكثر زيارة الناس للبيت الحرام، ويكثر عماره طول السنة، لتحصل فائدة للحجاج والمعتمرين بإتمام الحج والعمرة، وبحصول الأجر بمشقة السفرتين، وتحصل الفائدة لأهل الحرم فيدخل عليهم الرفق واليسار تحقيقا لدعوة إبراهيم عليه السلام. { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].

الرواية الثانية: عند البيهقي بسنده عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "قُلْتُ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِهَا. قَالَ: عَلَى يَدِيَّ جَرَى الْحَدِيث ... فَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: .... افْصِلُوا حَجَّكُمْ مِنْ عُمْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ أَتَمُّ لِحَجِّكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِكُمْ".

علق البيهقي على الرواية قائلاً: "وَوَجَدْنَا فِي قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ لِيَكُونَ أَتَمَّ لَهُمَا، فَحَمَلْنَا نَهْيَهُ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ عَنِ التَّنْزِيهِ، وَعَلَى اخْتِيَارِ الْأَفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ"([17]).

والرواية ذكرها الجصاص في (أحكام القرآن)، فقال: "عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ تُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ قَالَ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]. وقال تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]. فَأَخْلِصُوا أَشْهُرَ الْحَجِّ لِلْحَجِّ وَاعْتَمِرُوا فِيمَا سِوَاهَا مِنْ الشُّهُورِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ تَتِمَّ عُمْرَتُهُ إلَّا بِهَدْيٍ، وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَدْيٍ غَيْرِ وَاجِبِ، فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِجِهَةِ اخْتِيَارِهِ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا"([18]).

فرأى عمر رضي الله عنه أن الصورة المثالية للحج أن يكون في سفرة والعمرة في سفرة أخرى.

الرواية الثالثة: روى الإمام مسلم: "عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: رُوَيْدَكَ بِبَعْضِ فُتْيَاكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النُّسُكِ بَعْدُ، حَتَّى لَقِيَهُ بَعْدُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَعَلَهُ، وَأَصْحَابُهُ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ يَظَلُّوا مُعْرِسِينَ بِهِنَّ فِي الْأَرَاكِ، ثُمَّ يَرُوحُونَ فِي الْحَجِّ تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ"([19]).

قلت: فمن المعلوم أن الشريعة جاءت بالحسن والأحسن وحثت على اتباع الأحسن، قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: "وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أَيْ: يُقَدِّمُونَ الْأَحْسَنَ، الَّذِي هُوَ أَشَدُّ حُسْنًا، عَلَى الْأَحْسَنِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْحُسْنِ، وَيُقَدِّمُونَ الْأَحْسَنَ مُطْلَقًا عَلَى الْحَسَنِ"([20]).

فقد كان عمر رضي الله عنه يرى أنه من الأحسن والأفضل للناسك، أن لا يتمتع فيؤدي عمرة ثم يتحلل ويأتي أهله، فأراد أن يحمل الحجاج بما الأفضل..

قال الحافظ ابن حجر: "وَكَانَ مِنْ رَأْيِ عُمَرَ عَدَمُ التَّرَفُّهِ لِلْحَجِّ بِكُلِّ طَرِيقٍ فَكَرِهَ لَهُمْ قُرْبَ عَهْدِهِمْ بِالنِّسَاءِ لِئَلَّا يَسْتَمِرَّ الْمَيْلُ إِلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ بَعُدَ عَهْدُهُ بِهِ"([21]).

وعليه فكان نهي عمر لكل تلك المصالح الشرعية التي دل عليها الكتاب والسنة، وكان حمل عمر للناس على صورة من الصور التي جاء بها الشرع ولم يبتدع عمر صورة جديدة من صور النسك، وقد قررنا أن ذلك جائز للحاكم فعله بلا خلاف، وليس هو من باب التشريع ولا من باب البدعة، بل هو عين السنة التي دلت عليها الكتاب والسنة.

رابعًا: وللرافضة أقول: إذا شنعتم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنه ندب الناس إلى أداء نسك من الأنساك، وترك آخر سياسةً لا تشريعًا، وذلك لإعمار بيت الله الحرام، ولزيادة أجر الناسكين، وليوافق الحال التي أمر بها الشارع في الحج، فماذا تقولون عن علي والحسن والحسين والسجاد الذين لم يعرفوا الشيعة مناسك الحج كلها، فكتموا العلم عنهم، وما عرفوا منسكًا واحدًا من مناسك الحج؟!!

عن عيسى بن السري أبي اليسع قال: قلت لأبي عبد الله عليه ‌السلام أخبرني بدعائم الإسلام؟ ... ثم كان محمد بن علي أبو جعفر وكانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر، وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم، حتى كان أبو جعفر ففتح لهم وبين لهم مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم..."([22]).

فالسؤال: لماذا كان الأئمة يكتمون علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيعتهم بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحج بالناس ويأمرهم بالحج ويعرفهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ويرشدهم للأفضل؟!

والحمد الله رب العالمين

وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

([1]) سنن النسائي (١٥٣/٥).

([2]) الإيضاح، الفضل بن شاذان (ص449).

([3]) فتح الباري، لابن حجر (٤٧٥/٦).

([4]) صحيح: انظر: "الإرواء" (983)، "الروض النضير" (38)، "صحيح أَبي داود" (1578)، صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (٤١٦/١).

([5]) مصنف ابن أبي شيبة (٢٢٨/٣). قال الألباني إسناده صحيح. وانظر: "جامع تراث العلامة الألباني في الفقه"، (٣١٩/١١)، وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، (٥٣/٣).

([6]) أحكام القرآن، للجصاص (٣٥٦/١).

([7]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (٥٣/٣).

([8]) شرح العمدة، لابن تيمية، كتاب الحج (1/ 525).

([9]) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص ١٠٤).

([10]) شرح العمدة، لابن تيمية، كتاب الحج (٥٢٨/١).

([11]) الطرق الحكمية (ص ١٢).

([12]) الطرق الحكمية (ص ١٢).

([13]) الطرق الحكمية (ص ١٩).

([14]) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية (٦٢/١).

([15]) السنن الكبرى للبيهقي (٣٠/٥).

([16]) شرح العمدة، لابن تيمية، كتاب الحج (٥٢٨/١).

([17]) السنن الكبرى للبيهقي (٣٣٥/٧).

([18]) أحكام القرآن للجصاص (٣٥٥/١).

([19]) صحيح مسلم (٨٩٦/٢).

([20]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (٣٥٦/٦).

([21]) فتح الباري لابن حجر (3/ 418).

([22])  الكافي (٢ /٢٠)، وقال المجلسي في (مرآة العقول) (٧/١٠٨) الحديث السادس: صحيح بسنديه.


لتحميل الملف pdf

تعليقات