زعم الشيعة فرار عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المعارك!

الشبهة الثامنة والخمسون

زعم الشيعة: فرار عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المعارك

 

محتوى الشبهة:

من جملة المطاعن التي وجهها الرافضة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كان يفر من المعارك، واتهموه –وحاشاه- بالجبن، ليتوصلوا بذلك أنه لم يكن يستحق الخلافة وإمرة المسلمين، قال جعفر مرتضى العاملي:" فإن فرار عمر من الزحف يوم أحد، وحنين، خيبر، معروف، ويعده العلماء من جملة المطاعن عليه؛ لأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر الموبقة"([1]).

الرد التفصيلي على الشبهة:

أولاً: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو من الصحابة الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزواته ولم يتخلف عنها.

قال ابن سعد: "قالوا: شهد عمر بن الخطاب بدرًا، وأحدًا، والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج في عدة سرايا وكان أمير بعضها"([2]).

ثانيًا: ادعاء الرافضة بأن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن شجاعًا، هو ادعاء كاذب لو صدقه العاقل لكان عليه أن يكذب كل أخبار التاريخ. فعمر رضي الله عنه قد ثبتت بالتواتر شجاعته وإقدامه وشدته على أهل الكفر. وهذه بعض الروايات التي تدل على المستوى العالي لشجاعة وقوة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأثرها في نصرة الإسلام وقمع الكفر وأهله.

عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ: بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ) قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ([3]).

وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ).

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: (مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ).

قال ابن حجر رحمه الله تعالى:" قوله: (مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ)، أي: لما كان فيه من الجلد والقوة في أمر الله"([4]).

فلو كان عمر رضي الله عنه يفر من الحروب ولا يشارك فيها، فكيف يكون في إسلامه عز للإسلام والمسلمين؟! بل كان كفار قريش يعرفون لعمر هيبته ومكانته في الحروب، وأنه من أخص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: "لَقِينَا المُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ – أي يوم معركة أحد -، وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَيْشًا مِنَ الرُّمَاةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَالَ: لاَ تَبْرَحُوا، إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلاَ تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلاَ تُعِينُونَا. فَلَمَّا لَقِينَا هَرَبُوا، حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الجَبَلِ، رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ، قَدْ بَدَتْ خَلاَخِلُهُنَّ، فَأَخَذُوا يَقُولُونَ: الغَنِيمَةَ الغَنِيمَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ تَبْرَحُوا، فَأَبَوْا، فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَ وُجُوهُهُمْ، فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلًا، وَأَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: أَفِي القَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ: لاَ تُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَفِي القَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ قَالَ: لاَ تُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَفِي القَوْمِ ابْنُ الخَطَّابِ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاَءِ قُتِلُوا، فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَأَجَابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ...)([5]).

فلو كان عمر رضي الله عنه يفر من الحروب ولا يشارك فيها، فلماذا يفرح أبو سفيان رئيس المشركين يومئذ لما ظن أن عمر قد قتل؟!

ثالثًاً: لو سلمنا أن هذا الهروب ثابت، فإنه ليس من قبيل الهروب المحرم المذموم، وهذا باعتراف أحد علماء القوم، قال محمد باقر الصدر: "وقد توافقني على أن مقام الصديق والفاروق (رض) في الإسلام يرتفع بهما عن الفرار المحرم"([6]).

رابعًا: هناك بعض الروايات التي يتمسك بها الرافضة ويزعمون أن فيها دليلا على مدعاهم.

الرواية الأولى: ما رواه الإمام أحمد عن أَبِي بُرَيْدَةُ قَالَ: (حَاصَرْنَا خَيْبَرَ، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنَ الْغَدِ عُمَرُ، فَخَرَجَ، فَرَجَعَ، وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ غَدًا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، لَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ. فَبِتْنَا طَيِّبَةٌ أَنْفُسُنَا أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ رضي الله عنه صَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ قَامَ قَائِمًا فَدَعَا بِاللِّوَاءِ وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ وَفُتِحَ لَهُ)([7]).

وهذه الواقعة ليس فيها ما يدل على فرار عمر رضي الله عنه من الحرب:

فهو رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لا خوفا وهربا، وإنما رجع لمّا رأى أنه لا يصل إلى نتيجة، كما تشير عبارة الحديث (وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ).

غزوة خيبر لم يكن فيها من مواجهة الأعداء ما يدفع الشخص إلى الهرب، فاليهود كانوا مختفين داخل حصونهم ولم يتجرؤوا على الخروج منها، والمسلمون يحاولون اقتحامها؛ فخيبر كانت عبارة عن مجموعة من الحصون؛ لهذا دام القتال والحصار عدة أيام.

هذه الرواية تدل على مكانة عمر رضي الله عنه في الحروب وخبرته وشجاعته؛ ولذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم أميرا على مجموعة من الجنود وأرسله في مهمة خاصة.

عمر رضي الله عنه لمّا لم يفتح له ولم يصل إلى النصر المراد، لم يرجع إلى بيته في المدينة، بل رجع إلى المعسكر، حيث النبي صلى الله عليه وسلم، يأتمر بأمره، وينظر ماذا يحدث له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتراجع الجنود بهذه الصورة لا يسمى هروبًا ولا فرارًا بنص القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15-16].

الرواية الثانية: ما رواه البخاري عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: (لَمَّا كَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِينَ، وَآخَرُ مِنَ المُشْرِكِينَ يَخْتِلُهُ مِنْ وَرَائِهِ لِيَقْتُلَهُ، فَأَسْرَعْتُ إِلَى الَّذِي يَخْتِلُهُ، فَرَفَعَ يَدَهُ لِيَضْرِبَنِي وَأَضْرِبُ يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا، ثُمَّ أَخَذَنِي فَضَمَّنِي ضَمًّا شَدِيدًا، حَتَّى تَخَوَّفْتُ، ثُمَّ تَرَكَ، فَتَحَلَّلَ، وَدَفَعْتُهُ ثُمَّ قَتَلْتُهُ، وَانْهَزَمَ المُسْلِمُونَ وَانْهَزَمْتُ مَعَهُمْ، فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ...)([8]).

وتمسكوا بعبارة: (وَانْهَزَمَ المُسْلِمُونَ وَانْهَزَمْتُ مَعَهُمْ، فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟)، فقالوا كذبًا، هذا دليل على أن عمر رضي الله عنه كان فارًّا.

وهذا الفهم باطل:

أبو قتادة لم ينص على الوقت الذي التقى فيه بعمر ولا على حال عمر هل كان واقفًا أم فارًّا؟ فالمسلمون كانوا حوالي عشرة آلاف مقاتل كما نصت الرواية الصحيحة بذلك، وهذه الكثرة من شأنها أن تجعل الجندي الفار من المقدمة يمر على من هو في وسط الجيش وآخره ممن هو ثابت غير فار، بل المحاورة بين أبي قتادة وعمر تدل على أن عمر كان في حالة ثبات لا فرار، فلو كان عمر أيضا فاراً؛ لكان كل واحد منهما مشغولا بنفسه كما هي حالة الفرار ولم يكن هناك وقت ولا هيئة تسمح بالحوار.

جاءت الرواية بسند حسن تنص على أن عمر رضي الله عنه كان من الذين لم يفروا يوم حنين وبقي ثابتًا مع النبي صلى الله عليه وسلم.

روى الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: "لَمَّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ قَالَ: انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ، حَطُوطٍ، إِنَّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا، قَالَ: وَفِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ، وَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ كَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ، وَفِي أَحْنَائِهِ، وَمَضَايِقِهِ، قَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيَّئُوا وَأَعَدُّوا، قَالَ: فَوَاللهِ مَا رَاعَنَا، وَنَحْنُ مُنْحَطُّونَ إِلَّا الْكَتَائِبُ، قَدْ شَدَّتْ عَلَيْنَا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَانْهَزَمَ النَّاسُ رَاجِعِينَ، فَاسْتَمَرُّوا لَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ. وَانْحَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ الْيَمِينِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ. قَالَ: فَلَا شَيْءَ، احْتَمَلَتْ الْإِبِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَانْطَلَقَ النَّاسُ إِلَّا أَنَّ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، غَيْرَ كَثِيرٍ، ثَبَتَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ...)([9]).

الرواية الثالثة: ما رواه الطبري قال:" حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: ثنا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَرَأَ آلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ إِذَا خَطَبَ أَنْ يَقْرَأْهَا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155]. قَالَ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هَزَمْنَاهُمْ، فَفَرَرْتُ حَتَّى صَعِدْتُ الْجَبَلَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْزُو كَأَنَّنِي أَرْوَى، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَقُلْتُ: لَا أَجِدُ أَحَدًا يَقُولُ قُتِلَ مُحَمَّدٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ. حَتَّى اجْتَمَعْنَا عَلَى الْجَبَلِ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} "([10]).

والرد من وجهين:

 وهذه الرواية لا تصح، لوجود أبي هشام الرفاعي في السند، قال فيه الإمام النسائي: "محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي ضعيف". وقال الحافظ ابن حجر:" محمد بن يزيد بن محمد بن كثير العجلي أبو هشام الرفاعي الكوفي قاضي المدائن: ليس بالقوي من صغار العاشرة، وذكره ابن عدي في شيوخ البخاري وجزم الخطيب بأن البخاري روى عنه، لكن قد قال البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه"([11]).

الوارد في معركة أحد قد بين الله تعالى حكم من فرّ فيها فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155].

هل يجوز لأحد أن يعترض على عفو الله تعالى؟ فالله تعالى قد عفا عن أولئك الذين تولوا، والرافضة يطعنون بهم.

خامسًا: إن كان فرار بعض الصحابة من المعارك يعد طعنًا فيهم، وقدحًا في شجاعتهم، فما جواب الرافضة عما ورد في كتبهم من فرار عمار بن ياسر رضي الله عنه من المعارك مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟

روى الطوسي في تلخيصه المسمى (اختيار معرفة الرجال) بسنده عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: "جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك إلى علي عليه السلام فقالوا له: أنت والله أمير المؤمنين وأنت والله أحق الناس وأولاهم بالنبي عليه السلام هلم يدك نبايعك، فوالله لنموتن قدامك! فقال عليٌّ عليه السلام: إن كنتم صادقين فاغدوا غداً عليَّ محلقين، فحلق عليٌّ عليه السلام وحلق سلمان وحلق مقداد وحلق أبو ذر ولم يحلق غيرهم. ثم انصرفوا فجاؤوا مرة أخرى بعد ذلك، فقالوا له: أنت والله أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس وأولاهم بالنبي عليه السلام هلم يدك نبايعك فحلفوا فقال: إن كنتم صادقين فاغدوا عليَّ محلقين فما حلق إلا هؤلاء الثلاثة قلت: فما كان فيهم عمار؟ فقال: لا. قلت: فعمار من أهل الردة؟ فقال: إن عمارًا قد قاتل مع علي عليه السلام بعد"([12]).

يقول علي الكوراني عن الرواية: "وهذا سند صحيح باتفاق علمائنا، وقد نص على صحة الحديث وغيره في الباب السيد الخوئي"([13]).

وهذا الرواية تدل على أمور:

أن عمارا رضي الله عنه لم يمتثل أمر علي رضي الله عنه بالحلق وهو كناية عن فراره من القتال.

يؤكد عدم الامتثال، قوله في الرواية: (قلت: فما كان فيهم عمار؟ قال: لا).

أن هذا الأمر تكرر مرتين بدليل ما ورد في الرواية (ثم انصرفوا فجاؤوا مرة أخرى بعد ذلك...فما حلق إلا هؤلاء الثلاثة).

الذي يؤكد أن عمارًا لم يمتثل أمر الحلق فراراً من القتال، ما قاله جعفر السبحاني تعليقًا على هذا الحديث:" وهذه الرواية قرينة واضحة على أن المراد هو نصرة الإمام عليه السلام لأخذ الحق المغتصب، فيكون المراد من الردة هو عدم القتال معه"([14]).

بما أن الإمام الباقر قد عدَّ قتال عمار مع علي رضي الله عنه -في الجمل وصفين- مكفِّراً له عن جُرْم فراره من القتال مرتين.

فنقول: إن كان قتاله لاحقاً يُعَدُّ عند المعصوم مكفِّراً لجُرْم فراره عن القتال مرتين، فكذلك عمر رضي الله عنه -لو سلمنا بفراره- فإن خروجه لغزوة العسرة في تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم يُعَدُّ تكفيراً لجُرْم الفرار.

وإن كان تكفير جُرْم عمار قد عُلِمَ بإخبار الباقر عندكم، فإن تكفير جُرْم عمر رضي الله عنه قد عُلِمَ بإخبار الله تعالى بقوله: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117].

سادسًا: إذا طعن الرافضة في بعض الصحابة رضي الله عنهم بسبب فرارهم من المعارك، فما يفعلون بإمامهم الغائب الذي فر وهرب بسبب الخوف على نفسه.

قال نعمة الله الجزائري موضحًا على غيبة المهدي: "بل سبب الغيبة هو الخوف على ما قلناه"([15]).

وقال محمد الصدر: "الغيبة والاحتجاب تدور مدار الخوف، على الدوام. فمتى كان الخوف موجودا كانت الغيبة سارية المفعول، ومتى ارتفع الخوف، لم يكن ثمة موجب للغيبة ([16]).

مع أنه يشترط في الإمام عندهم أن يكون أشجع الناس، قال الحلي:" الحادي والستون: الإمام أشجع الناس لما يأتي"([17]).

وعدم اتصافه بالشجاعة مسقط لإمامته، يقول الشريف المرتضى:" وإذا لم يكن أشجع الناس سقط فرض إمامته؛ لأنه في الحرب فئة للمسلين، فلو فر لدخل فيمن قال الله تعالى {ومن يولّهم يومئذ دبره إلا متحرّفا لقتال أو متحيّزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله} ([18]).

 

([1]) الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله، جعفر مرتضى العاملي (8/83).

([2]) الطبقات الكبرى، ابن سعد (3/272).

([3]) رواه الترمذي (3681) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (3/ 509).

([4]) فتح الباري، ابن حجر (7/48).

([5]) رواه البخاري في صحيحه (4043).

([6]) فدك في التاريخ- محمّد باقر الصدر-ص95.

([7]) مسند الإمام أحمد (38/97). وصححه محققو المسند، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (7/733).

([8]) صحيح البخاري (4322).

([9]) مسند الإمام أحمد (23/273)، وحسنه محققو المسند.

([10]) تفسير الطبري (7/327).

([11]) تقريب التهذيب، ابن حجر (1 /514).

([12]) اختيار معرفة الرجال، الطوسي (1/38-39).

([13]) جواهر التاريخ، علي الكوراني (4/328).

([14]) أضواء على عقائد الإمامية، جعفر السبحاني (ص526).

([15])  رياض الأبرار في مناقب الأئمة الأطهار، نعمة الله الجزائري (3/120).

([16])  تاريخ الغيبة، السيد محمد الصدر (2/131).

([17]) الألفين، الحلّي (ص 141).

([18]) رسالة المحكم والمتشابه المنسوبة إلى الشريف المرتضى علم الهدى، تحقيق السيد عبد الحسين الغريفي البهبهان (ص112-113).


لتحميل الملف pdf

تعليقات