أكاديمية حفظني القرآن شبهات وردود

إفتاء عائشة  برضاع الكبير.. رد مفضل على شبهة الشيعة

قالت الشيعة: إن عائشة أفتت بجواز رضاع الكبير، بخلاف علماء الإسلام قاطبة، وروت في ذلك حديثًا تفردت به.

الرد التفصيلي على الشبهة:

رواية رضاع الكبير التي فصّلت الموضوع من موطأ مالك، وفيها:

 قال مالك: حَدَّثَني يَحْيَى، عَن مَالِكٍ، عَن ابْن شِهَابٍ، أَنهُ سُئِلَ عَن رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ: أَخْبَرَني عُرْوَةُ بْن الزُّبَيْرِ: «أَن أَبَا حُذَيْفَةَ بْن عُتْبَةَ بْن رَبِيعَةَ وَكَان مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ، وَكَان قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَكَان تَبَنى سَالِمًا الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، كَمَا تَبَنى رَسُولُ اللهِ  زَيْدَ بْن حَارِثَةَ، وَأَنكَحَ أَبُو حُذَيْفَةَ سَالِمًا، وَهُوَ يَرَى أَنهُ ابْنهُ أَنكَحَهُ بِنتَ أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنتَ الْوَلِيدِ بْن عُتْبَةَ بْن رَبِيعَةَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِن الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، وَهِيَ مِن أَفْضَلِ أَيَامَى قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَنزَلَ اللهُ تعالى فِي كِتَابِهِ فِي زَيْدِ بْن حَارِثَةَ مَا أَنزَلَ فَقَالَ: [ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ] {الأحزاب:5}، رُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِن أُولَئِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَإِن لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ رُدَّ إِلَى مَوْلَاهُ، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنتُ سُهَيْلٍ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَهِيَ مِن بَني عَامِرِ بْن لُؤَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللهِ  فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُنا نرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَان يَدْخُلُ عَلَيَّ، وَأَنا فُضُلٌ وَلَيْسَ لَنا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ، فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنهِ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ : «أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَيَحْرُمُ بِلَبَنهَا»، وَكَانتْ تَرَاهُ ابْنا مِن الرَّضَاعَةِ، فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنين فِيمَن كَانتْ تُحِبُّ أَن يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِن الرِّجَالِ، فَكَانتْ تَأْمُرُ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ بِنتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَبَناتِ أَخِيهَا أَن يُرْضِعْن مَن أَحَبَّتْ أَن يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِن الرِّجَالِ، وَأَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النبِيّ أَن يَدْخُلَ عَلَيْهِن بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ مِن الناسِ، وَقُلْن: «لَا وَاللهِ، مَا نرَى الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ق سَهْلَةَ بِنتَ سُهَيْلٍ إِلَّا رُخْصَةً مِن رَسُولِ اللهِ ق فِي رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ، لَا وَاللهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْنا بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ»، فَعَلَى هَذَا كَان أَزْوَاجُ النبِيِّ  فِي رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ»([1]).

هذا الحديث في أعلى درجات الصحة، فهو متفق عليه عند البخاري ومسلم، ورواه مالك في الموطأ وأبو داود وابن ماجه والنسائي في سننهم، ورواه غيرهم، وهذه الشبهة مردودة من وجوه.

أولًا: الرضاع لا يستلزم مباشرة للثدي ولا النظر للعورة.

هذا الحديث لا يتعارض مع كتاب الله في شيء من ناحية غض البصر عن غير المحارم؛ لأن الرضاع لا يلزم منه مباشرةُ الثدي أو مصُّه، كما روى ابن سعد بسنده عن مُحَمَّدِ بْن عَبْدِ اللهِ ابْن أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَن أَبِيهِ قَالَ: «كَان يُحْلَبُ فِي مِسْعَطٍ أَوْ إِناءٍ قَدْرَ رَضْعَةٍ فَيَشْرَبُهُ سَالِمٌ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ»([2]).

والرضاع في اللغة يطلق على مجرد شرب اللبن:

قال الفراهيدي: «وأرضعته أمُّه أي: سقته»([3])، وقال ابن سِيدَهْ: «رَضَعَ الصبيُّ: شَرِبَ اللَّبن»([4]).

وقال الصنعاني: «وَاسْمُ الرَّضَاعِ لَا يَقِفُ عَلَى الِارْتِضَاعِ مِن الثَّدْيِ، فَإِن الْعَرَبَ تَقُولُ: يَتِيمٌ رَاضِعٌ وَإِن كَان يَرْضَعُ بِلَبَن الشَّاةِ وَالْبَقَرِ، وَلَا عَلَى فِعْلِ الِارْتِضَاعِ مِنهَا، بِدَلِيلِ أَنهُ لَوْ ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ مِنهَا وَهِيَ نائِمَةٌ يُسَمَّى ذَلِكَ رَضَاعًا»([5]).

وحتى الفقهاء سموا الشرب رضاعًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَلَوْ كَانتْ لَمْ تُكْمِلْ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَحُلِبَ لَهَا لَبَن كَثِيرٌ، فَقَطَعَ ذَلِكَ اللَّبَن، فَأُوجِرَهُ صَبِيٌّ مَرَّتَيْن أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى يُتِمَّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ لَمْ يَحْرُمْ؛ لِأَنهُ لَبَن وَاحِدٌ، وَلَا يَكُون إلَّا رَضْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ كَاللَّبَن يَحْدُثُ فِي الثَّدْيِ كُلَّمَا خَرَجَ مِنهُ شَيْءٌ حَدَثَ غَيْرُهُ، فَيُفَرَّقُ فِيهِ الرَّضَاعُ حَتَّى يَكُون خَمْسًا.

(قَالَ الرَّبِيعُ): وَفِي قَوْلٍ آخَرَ أَنهُ إذَا حُلِبَ مِنهَا لَبَن فَأُرْضِعَ بِهِ الصَّبِيُّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَكُلُّ مَرَّةٍ تُحْسَبُ رَضْعَةً، إذَا كَان بَيْن كُلِّ رَضْعَتَيْن قَطْعٌ بَيِّن»([6]).

وأجمع المسلمون أن الرضاع يحرم بمجرد الشرب، قال ابن عبد البر: «وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى التَّحْرِيمِ بِمَا يَشْرَبُهُ الْغُلَامُ الرَّضِيعُ مِن لَبَن الْمَرْأَةِ وَإِن لَمْ يَمُصَّهُ مِن ثَدْيِهَا»([7]).

فظهر من هذا أن رضاع سالم ليس فيه مخالفة لكتاب الله؛ حيث إنه لا يلزم منه رؤيةُ جسد محرم ولا مسُّه.

ثانيًا: شهادة سائر أزواج النبي بصحة ما روته عائشة 

بل ولم تنفرد أم المؤمنين عائشة  برواية هذا الحديث، فقد جاء عند مسلم من رواية أم سلمة ل عَن ابْن شِهَابٍ أَنهُ قَالَ: أَخْبَرَني أَبُو عُبَيْدَةَ بْن عَبْدِ اللهِ بْن زَمْعَةَ، أَن أُمَّهُ زَيْنبَ بِنتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَن أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النبِيِّ ق كَانتْ تَقُولُ: «أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النبِيِّ ق أَن يُدْخِلْن عَلَيْهِن أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَقُلْن لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللهِ ق لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ، وَلَا رَائِينا»([8]).

فهذه رواية أم سلمة تؤيد رواية أم المؤمنين عائشة، وتقَبُّل أزواج النبي ق حديث رضاع سالم، لكنهن لم يحدثْن به لعلَّةٍ تأتي معنا في توجيه كلام أم سلمة.

وهذا القول من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة دليل على أنهن يعتقدن بما روته، لكنهن رأين أنها واقعة عَيْن لحالة خاصة، وفيه دليل أن رواية سالم متواترة عن أزواج النبي ق.

ثالثًا: الجمهور على خصوصية هذا الرضاع بسالم

وجمهور أهل الإسلام على أن هذا الحكم خاصٌّ بسالم، ولا تَثبُتُ الحُرمةُ برَضاعِ الكَبيرِ باتِّفاقِ الْمَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ([9])، وهو قَولُ جُمهورِ التَّابعين، وفُقَهاءِ الأمصارِ.

قال ابن عبدِ البَرِّ: «ممَّن قال إن رَضاعَ الكبيرِ ليس بشَيءٍ: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس، وسائِرُ أمَّهاتِ المؤمنين غيرَ عائشةَ، وجمهورُ التابعين، وجماعةُ فقهاء الأمصار، منهم: الليث، ومالك، وابن أبي ذئب، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، والطبري»([10]).

والحكمة في إباحة النبي ق ذلك لسالم: أن الزمان زمان تشريع، وقد جاء الإسلام بفرض الحجاب وتحريم التبني، ومع ما في هذين الحكمين من مصالح، فقد نتج عنه مشقة عظيمة لأسرة مسلمة في بداية التشريع، فكان من رحمة الله بهذه الأسرة أن شرع لها رضاع الكبير بالصورة التي ذكرناها آنفًا في قصة سالم؛ لعلاج هذه الحالة التي لن تتكرر كون التشريع حرم التبني، فمن تبنى ولدًا بعد ذلك كان مخالفًا لحكم ثابت في الشريعة فلا يستحق التخفيف، ولو فرضنا وجود حالة كهذه فمن أين لنا بالمعجزة التي أخبر النبي ق عنها في الحديث بقوله: ««وَيَذْهَبِ الَّذِي فِي نفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ» فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ: إِني قَدْ أَرْضَعْتُهُ، فَذَهَبَ الَّذِي فِي نفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ؟»([11]).

فكأنها لم تتصور أنه بمجرد أن يشرب سالم ذلك اللبن، أن يذهب ما في نفس أبي حذيفة، فلذلك ذهبت إلى النبي ق تبشره بحصول تلك المعجزة، كل هذا يؤكد أن هذا خاص بسالم مولى أبي حذيفة، على أننا لو قلنا بأنه إذا تحققت حالة سالم نفسها في شخص لما بَعُد القول بإرضاعه لمجرد الحرمة حَلًّا لتلك المشكلة، كأن يُسلم رجل بأسرته وفيهم شاب قد تبنوه قبل دخولهم للإسلام، فإن قلنا بجواز رضاعه لتحقق المحرمية فليس ذلك ببعيد من القياس، ويكون هذا مخصصًا لعمومات التحريم بالرضاع دون الحولين، لكن الأولى هو عدم القول بذلك، وأن حالة سالم واقعة عين لا يقاس عليها، وهو ما سنبينه في النقطة التالية.

رابعًا: هل ثبت عن أم المؤمنين القول برضاع الكبير بسند صحيح؟

الصحيح من مذهب أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أنها لم تُفْتِ برضاع الكبير، ولم يثبت ذلك عنها بإسناد صحيح، والقول الذي يُنسب إلى فقيهٍ لا بد أن يُبنى على ما ثبت صريحًا من قوله، وبعض الفقهاء قد يَنسب القول إلى فقيه؛ لمجرد حكاية ذلك القول عنه دون تتبع لصحة ذلك عنه، أو لا يكون المجال مجال تحقيق للأقوال، أو قد يظن أن ذلك ثابت عنه، فيتبين عدمه، إلى غير ذلك من الأسباب.

 حتى أن ابن القيم قال: «إن القول بالتحريم برضاع الكبير مروي عن علي بن أبي طالب ا، وَيُرْوَى عَن علِي، وَعُرْوَةَ بْن الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءِ بْن أَبِي رَبَاحٍ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْن سَعْدٍ، وأبي محمد بن حزم، قَالَ: وَرَضَاعُ الْكَبِيرِ وَلَوْ أَنهُ شَيْخٌ يُحَرِّمُ كَمَا يُحَرِّمُ رَضَاعُ الصَّغِيرِ»([12]).

فإذا حققت قول علِيٍّ ا في المسألة، وجدت الصواب أنه لم يُفْتِ بذلك.

وهكذا أم المؤمنين عائشة  إذا حققتَ قولها وجدت أنها لم تفتِ برضاع الكبير قط، وإليك الأدلة القاطعة على ذلك:

الدليل الأول: ما رواه عَبْدُ الرَّزَّاقِ بسنده عن نافِع يُحَدِّثُ أَن سَالِمَ بْن عَبْدِ اللهِ حَدَّثَهُ «أَن عَائِشَةَ زَوْجَ النبِيِّ  أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ ابْنةِ أَبِي بَكْرٍ لِتُرْضِعَهُ عَشْرَ رَضَعَاتٍ لِيَلِجَ عَلَيْهَا إِذَا كَبِرَ، فَأَرْضَعَتْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ يَكُن سَالِمٌ يَلِجُ عَلَيْهَا»([13]).

وقد صرحت رواية موطأ مالك بصغر سالم، فعَن نافِعٍ، أَن سَالِمَ بْن عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ «أَن عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنين، أَرْسَلَتْ بِهِ وَهُوَ يَرْضَعُ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ بِنتِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ، قَالَ سَالِمٌ: فَأَرْضَعَتْني أُمُّ كُلْثُومٍ ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ تُرْضِعْني غَيْرَ ثَلَاثِ مِرَارٍ، فَلَمْ أَكُن أَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ مِن أَجْلِ أَن أُمَّ كُلْثُومٍ لَمْ تُتِمَّ لِي عَشْرَ رَضَعَاتٍ»([14]). وإسناد عبد الرزاق ومالك كلاهما صحيح.

وجه الدلالة: أن أم المؤمنين عائشة  أرسلت سالِمًا وهو صغير في سن الرضاع؛ ليرضع من أختها أم كلثوم ليدخل عليها إذا كبر، فيسهل عليه أخذ العلم عنها، لكنها مرضت فلم تكمل رضاعه فلم يدخل عليها، فإذا كانت أم المؤمنين عائشة ل ترى جواز رضاع الكبير، فلماذا لم تأمر برضاع سالم وهو كبير ليدخل عليها؟

وهذا من أقوى الأدلة على أن رأي أم المؤمنين هو عدم جواز رضاع الكبير.

الدليل الثاني: ثبت في صحيحَي البخاري ومسلم من حديث أم المؤمنين عائشة ل أن النبي  قَالَ: «انظُرْن مَن إِخْوَانكُن، فَإِنمَا الرَّضَاعَةُ مِن المَجَاعَةِ»([15]).

قال القرطبي: ««إِنمَا الرَّضَاعَةُ مِن الْمَجَاعَةِ» وهذا منه ق تقعيد قاعدة كلية تصرح بأن الرضاعة المعتبرة في التحريم إنما هي في الزمان الذي تغني فيه عن الطعام، وذلك إنما يكون في الحولين وما قاربهما»([16]).

وجه الدلالة: إذا كانت أم المؤمنين عائشة ل تروي عن النبي ق حديثًا يؤصل لقاعدة عامة في عدم اعتبار التحريم بالرضاعة بعد الحولين، فكيف تخالف هي ما ترويه؟! فهذا دليل قوي على أنها تعتقد بعدم نشر الحرمة بالرضاع بعد الحولين.

الدليل الثالث: في مسند ابن الجعد بسنده عَن عَائِشَةَ  قَالَتْ: «يَحْرُمُ مِن الرَّضَاعِ مَا أَنبْتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ»([17]).

وجه الدلالة: أن الحديث قرر أن الرضاع الذي تتحقق به المحرمية هو ما أنبت اللحم والدم، وهذا لا يتحقق في الكبير؛ لأن الطفل الصغير هو الذي ينبت لحمه بالرضاع.

الدليل الرابع: أن الإمام مالكًا بعدما روى حديث سهلةَ ورضاع سالم قال -كما في الموطأ-: «إِنمَا كَان ذَلِكَ رُخْصَةً مِن رَسُولِ اللهِ ق، وَلَمْ يَعْمَلِ الناسُ مِن بَعْدِهِ، وَلَوْ كَان عَلَيْهِ الْعَمَلُ لَعَمِلَ بِهِ الناسُ بَعْدَهُ»([18]).

وجه الدلالة: أن الإمام مالكًا هو إمام دار الهجرة وأعلم الناس في زمانه، خاصة أهل المدينة، وأم المؤمنين عائشة عاشت ودُفنت في المدينة، فلو كان ذلك مذهبًا لها واشتهر عنها -كما يزعمون- لذكر ذلك واستثناها من عمل الناس.

وقد يقول قائل: لكن مالكًا قد ذكر قول الزهري المنسوب إلى أم المؤمنين، وأنها أفتت برضاع الكبير!!

فالجواب: أن الإمام مالكًا يعلم أن الرواية من مرسلات الزهري، فلم يعتمد عليها، ولم يشترط ألا يروي إلا المسند الصحيح، قال الحافظ العراقي: «إن مالكًا لم يفرد الصحيح، بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات، ومن بلاغاته أحاديث لا تعرف، كما ذكره ابن عبد البر»([19]).

 قلت: فكان تعليق مالك على الرواية دليلًا قطعيًّا أنه يعلم أنه لم يصح ذلك عن أم المؤمنين عائشة، وأنه لم يقع في ذلك حادثة واحدة، وإلا لاستثناها، لكنه عمم القول فذكر أنهَا كَانت رُخْصَةً، وَلَمْ يَعْمَلِ الناسُ بِهَا مِن بَعْدِهِ .

الدليل الخامس: رَوى مسلمٌ عن ابْن أَبِي مُلَيْكَةَ، أَن الْقَاسِمَ بْن مُحَمَّدِ ابْن أَبِي بَكْرٍ، أَخْبَرَهُ أَن عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: «أَن سَهْلَةَ بِنتَ سُهَيْلِ بْن عَمْرٍو جَاءَتِ النبِيَّ  فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِن سَالِمًا -لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ- مَعَنا فِي بَيْتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ، فَقَالَ: «أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ» قَالَ: «فَمَكَثْتُ سَنةً أَوْ قَرِيبًا مِنهَا لَا أُحَدِّثُ بِهِ وَهِبْتُهُ، ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ حَدَّثْتَني حَدِيثًا مَا حَدَّثْتُهُ بَعْدُ، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ: فَحَدِّثْهُ عَني، أَن عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنيهِ»([20]).

وجه الدلالة: أن ابن أبي مليكة هو شيخ الحرم وقاضي مكة في زمانه، وقد رأى ثمانين من أصحاب النبي، وكان من الصالحين والفقهاء في التابعين والحفاظ والمتقنين([21])، وقد عاش بين أصحاب النبي، ومع ذلك هاب أن يُحَدِّث بحديث سالم سنةً كاملةً، فلو كان الحديث معروفًا عندهم وعملت به أم المؤمنين لَمَا خفي ذلك على الناس، ولَمَا خاف ابن أبي مليكة من التحديث به، وكتمه عامًا كاملًا؛ ولذلك علق ابن عبد البر بعدما ذكر قول ابن أبي مليكة الآنف قائلًا: «هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنهُ حَدِيثٌ تُرِكَ قَدِيمًا وَلَمْ يُعْمَلْ بِهِ، وَلَا تَلَقَّاهُ الْجُمْهُورُ بِالْقَبُولِ عَلَى عُمُومِهِ، بَلْ تَلَقَّوْهُ بِالْخُصُوصِ»([22]).

فدلت رهبة ابن أبي مليكة -الذي هو من سادات التابعين وأكابرهم- من التحديث بحديث رضاع الكبير على أن أم المؤمنين ما كانت تفتي به ولا اشتُهِرَ ذلك عنها، ولا نعلم أحدًا ذكر -بسند صحيح- أنها أمرت بإرضاعه وهو كبير ليدخل عليها، ولا ذكر أحد من أهل العلم -بإسناد صحيح- اسم أحد أرسلت به أم المؤمنين وهو كبير ليرضع!

كل هذه أدلة على بطلان نسبة تلك الفتوى لأم المؤمنين عائشة .

الدليل السادس: لو وُجِدت فتوى صريحة لأم المؤمنين عائشة  تقول برضاع الكبير، لما اختلف أهل العلم في مذهبها، فهذا أبو بكر الجصاص ينفي عنها القول بأنها أفتت برضاع الكبير، ويذكر أن الذي ثبت عنها هو في الطفل الصغير لا غير ذلك.

قال في أحكام القرآن: «وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي قَدَّمْناهُ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَن بْن الْقَاسِمِ عَن أَبِيهِ: أَن عَائِشَةَ كَانتْ تَأْمُرُ بِنتَ عَبْدِ الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْرٍ أَن تُرْضِعَ الصِّبْيَان حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْهَا إذَا صَارُوا رِجَالًا، فَإِذَا ثَبَتَ شُذُوذُ قَوْلِ مَن أَوْجَبَ رَضَاعَ الْكَبِيرِ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَن رَضَاعَ الْكَبِيرِ غَيْرُ مُحَرِّمٍ»([23]).

وهناك قول آخر لعلاء الدين الكاساني فيه أن أم المؤمنين تراجعت عن فتواها برضاع الكبير، فقال في (بدائع الصنائع): «وَأَمَّا عَمَلُ عَائِشَةَ  فَقَدْ رُوِيَ عَنهَا مَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهَا؛ فَإِنهُ رُوِيَ عَنهَا أَنهَا قَالَتْ: لَا يُحَرِّمُ مِن الرَّضَاعِ إلَّا مَا أَنبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ، وَرُوِيَ أَنهَا كَانتْ تَأْمُرُ بِنتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْرٍ ب أَن تُرْضِعَ الصِّبْيَان حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْهَا إذَا صَارُوا رِجَالًا»([24]).

وهناك قول ثالث ذكره شيخ الإسلام ابن تيميَّة يبين أن مذهبها أن الرضاع إذا كان بقصد التغذية فلا يُحرِّم إلا للصغير فقط، فإذا ارتضع الكبير بقصد التغذية فلا تحصل الحرمة، وإما إذا حصل رضاع الكبير بغير قصد التغذية، بل لحاجة وضرورة، جعل الرجل محرمًا كما في حالة سالم، فيجوز.

فقال: «لَكِنهَا رَأَتِ الْفَرْقَ بَيْن أَن يَقْصِدَ رَضَاعَةً أَوْ تَغْذِيَةً، فَمَتَى كَان الْمَقْصُودُ الثَّاني لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا مَا كَان قَبْلَ الْفِطَامِ، وَهَذَا هُوَ إرْضَاعُ عَامَّةِ الناسِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَجُوزُ إن احْتِيجَ إلَى جَعْلِهِ ذَا مَحْرَمٍ، وَقَدْ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ»([25]).

وهناك قول رابع ينسب القول بالتحريم برضاع الكبير بإطلاق!

والخلاصة من هذا كله: أن الأقوال في مذهب أم المؤمنين عائشة ل اضطربت، فمن الفقهاء من قرَّر أنها لم تُفْتِ بذلك، ومنهم من ذكر أنها أفتت به ورجعت، ومنهم من قال لم ترجع، ومنهم من فرَّق بين قصد التغذية وغيرها.

فلو كان لأم المؤمنين قول صريح ثابت في المسألة، لما وجد هذا الاضطراب في تحديد مذهبها، لكن كما رأيت من الأدلة القاطعة السابقة أن الصواب من مذهبها أنها لم تفت برضاع الكبير قط، وإنما كانت تذكر رواية سالم وترويها من باب عدم كتمان العلم وبلاغ السنة لا أكثر من ذلك.

خامسًا: بطلان روايات نسبة القول برضاع الكبير إلى أم المؤمنين

الرواية الأولى: رواية عطاء

أخرج عبد الرزاق في مصنفه قال: «أَخْبَرَنا ابْن جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَسْأَلُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: سَقَتْني امْرَأَةٌ مِن لَبَنِهَا بَعْدَ مَا كُنتُ رَجُلًا كَبِيرًا أَأَنكِحُهَا؟ قَالَ: «لَا». قُلْتُ: وَذَلِكَ رَأْيُكَ؟ قَالَ: «نعَمْ». قَالَ عَطَاءٌ: كَانتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ بِذَلِكَ بَناتِ أَخِيهَا»([26]).

قلت: منقطع، فعطاء لم يصرح بالسماع من عائشة، ولا يُحتج بروايته عنها إلا بعد تصريحه بالسماع منها، قال الإمام أحمد: «ورواية عطاء عن عائشة لا يُحتج بها إلا أن يقول: سمعت»([27])، وقال ابن خراش المروزي: «وأحاديث عطاء عن عائشة مراسيل»([28]).

ومراسيل عطاء واهية، قال أَحْمَدُ بن حَنبَلٍ: «لَيْسَ فِي الْمُرْسَلَاتِ شَيْءٌ أَضْعَفَ مِن مُرْسَلَاتِ الحَسَن، وَعَطَاءِ بن أَبِي رَبَاحٍ، كَانا يَأْخُذَان عَن كُلِّ أَحَدٍ»([29]).

وقال يَحْيَى بن سَعِيدٍ القَطَّان: «مُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن مُرْسَلَاتِ عَطَاءٍ بِكَثِيرٍ، كَان عَطَاءٌ يَأْخُذُ عَن كُلِّ ضَرْبٍ»([30]).

الرواية الثانية: رواية الزهري

1- طريق معمر عن الزهري: روَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَن مَعْمَرٍ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنتُ سُهَيْلِ بْن عَمْرٍو إِلَى النبِيِّ ق فَقَالَتْ: إِن سَالِمًا كَان يُدْعَى لِأَبِي حُذَيْفَةَ، وَإِن اللهَ قَدْ أَنزَلَ فِي كِتَابِهِ: [ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ] {الأحزاب:5} وَكَان يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنا فَضْلٌ، وَنحْن فِي مَنزِلٍ ضَيِّقٍ، فَقَالَ النبِيُّ ق: «أَرْضِعِي سَالِمًا تَحْرُمِي عَلَيْهِ». قَالَ الزُّهْرِيُّ: «قَالَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النبِيِّ ق لَا ندْرِي لَعَلَّ هَذِهِ كَانتْ رُخْصَةً لِسَالِمٍ خَاصَّةً». قَالَ الزُّهْرِي: «وَكَانتْ عَائِشَةُ تُفْتِي بِأَنهُ يَحْرُمُ الرَّضَاعُ بَعْدَ الْفِصَالِ حَتَّى مَاتَتْ»([31]).

فتأمل لترى أن قصة سالم مروية بالإسناد، وأما الفتوى من أم المؤمنين فمن كلام الزهري بلا إسناد فالرواية من مراسيل الزهري؛ ومراسيله من أوهى المراسيل، قَالَ يَحْيَى بن سَعِيدٍ القَطَّان: «مُرْسَلُ الزُّهْرِيِّ شَرٌّ مِن مُرْسَلِ غَيْرِهِ؛ لأَنهُ حَافِظٌ، وَكُلُّ مَا قَدَرَ أَن يُسَمِّيَ سَمَّى، وَإِنمَا يَتْرُكُ مَن لَا يُحِبُّ أَن يُسَمِّيَه»([32]) وقال الشَّافِعِيُّ: «إِرسَالُ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنا نجِدُه يَرْوِي عَن سُلَيْمَان بن أَرْقَمَ»([33]).

2- طريق مالك عن الزهري: روى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَن مَالِكٍ، عَن ابْن شِهَابٍ، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَةَ: «أَن أَبَا حُذَيْفَةَ بْن عُتْبَةَ بْن رَبِيعَةَ، وَكَان بَدْرِيًّا، وَكَان قَدْ تَبَنى سَالِمًا الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، كَمَا تَبَنى النبِيُّ ق زَيْدًا، وَأَنكَحَ أَبُو حُذَيْفَةَ سَالِمًا، وَهُوَ يَرَى أَنهُ ابْنهُ، ابْنةَ أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنتَ الْوَلِيدِ بْن عُتْبَةَ، وَهِيَ مِن الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِن أَفْضَلِ أَيَامَى قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَنزَلَ اللهُ: [ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ] {الأحزاب:5} الْآيَةَ، رُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِن أُولَئِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَإِن لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ رُدَّ إِلَى مَوَالِيهِ، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنتُ سُهَيْلٍ، وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ وَهِيَ مِن بَني عَامِرِ بْن لُؤَيٍّ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُنا نرَى أَن سَالِمًا وَلَدٌ، وَكَان يَدْخُلُ عَلَيَّ، وَأَنا فَضْلٌ، وَلَيْسَ لَنا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ، فِمَاذَا تَرَى؟ -قَالَ الزُّهْرِي: فَقَالَ لَهَا فِيمَا بَلَغَنا -وَاللهُ أَعْلَمُ-: «أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَتَحْرُمُ بِلَبَنهَا».

وَكَانتْ تَرَاهُ ابْنا مِن الرَّضَاعَةِ، فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ، فِيمَن كَانتْ تُرِيدُ أَن يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِن الرِّجَالِ، فَكَانتْ تَأْمُرُ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنةَ أَبِي بَكْرٍ وَبَناتَ أَخِيهَا يُرْضِعْن لَهَا مَن أَحَبَّتْ أَن يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِن الرِّجَالِ، وَأَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النبِيِّ ق أَن يَدْخُلَ عَلَيْهِن بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، قُلْن: وَاللهِ مَا نرَى الَّذِي أَمَرَ النبِيُّ ق بِهِ سَهْلَةَ إِلَّا رُخْصَةً فِي رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ»([34]).

فانظر إلى قول الزهري: «فَقَالَ لَهَا فِيمَا بَلَغَنا -وَاللهُ أَعْلَمُ-...»، فالكلام إذًا من بلاغات الزهري المرسلة المنقطعة الضعيفة.

قال ابن رجب: «فإن الزهريَّ كان كثيرًا ما يروي الحديث، ثم يُدرجُ فيه أشياءَ، بعضها مراسيلُ، وبعضها من رأيه وكلامه»([35]).

3- طريق ابن جريج: وفي طريق ابن جريج قرينةٌ واضحةٌ على أن الزهري هو الذي أرسل تلك الفتوى ولم يسندْهَا قط، وذلك لأنها تُبين أن كتاب الزهري ليس فيه إلا قصة سالم، وليس فيه فتوى أم المؤمنين.

ففي (مصنف عبد الرزاق) قال: «أَخْبَرَنا ابْن جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَني ابْن شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَني عُرْوَةُ، عَن عَائِشَةَ «أَن أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنى سَالِمًا وَهُوَ مَوْلَى امْرَأَةٍ مِن الْأَنصَارِ، كَمَا تَبَنى النبِيُّ ق زَيْدًا، وَكَان مَن تَبَنى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ الناسُ ابْنهُ، وَوَرِثَ مِن مِيرَاثِهِ، حَتَّى أَنزَلَ اللهُ : [ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ] {الأحزاب:5} فَرُدُّوا إِلَى آبَائِهِمْ، وَمَن لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَبٌ، فَمَوْلًى وَأَخٌ فِي الدِّين، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنا كُنا نرَى سَالِمًا وَلَدًا يَأْوِي مَعِي، وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَيَرَاني فَضْلًا، وَقَدْ أَنزَلَ اللهُ فِيهِ مَا عَلِمْتَ، فَقَالَ النبِيُّ : «أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ»، وَكَان بِمَنزِلَةِ وَلَدِهَا مِن الرَّضَاعَةِ»([36]).

فهنا الفتوى المنسوبة لأم المؤمنين لم تُذكر في الرواية، وهذه الرواية منقولة من كتاب الزهري نفسه؛ لأن ابن جريج كان عنده كتب الزهري ولم يسمع منه، قَالَ ابْن جُرَيْجٍ: «لَمْ أَسْمَعْ مِن الزُّهْرِيِّ، إِنمَا أَعْطَاني جُزْءًا كَتَبتُهُ، وَأَجَازَهُ لِي»([37]).

وبه نتيقن أن الفتوى المنسوبة لأم المؤمنين لم يسندها الزهري، وإلا لأثبتها في كتابه، فثبت من ذلك أن كل رواية تأتي عن الزهري، وليس فيها فصل بين الرواية والفتوى، فإنها تكون مُدْرَجَةً([38]) من كلام الزهري؛ ولذلك روى الإمام أحمد رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري -التي فيها ذكر الفتوى- وحذف الفتوى واكتفى بالأصل.

قال الإمام أحمد: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنتُ سُهَيْلٍ إِلَى النبِيِّ ق فَقَالَتْ: إِن سَالِمًا كَان يُدْعَى لِأَبِي حُذَيْفَةَ، وَإِن اللهَ قَدْ أَنزَلَ كِتَابَهُ: [ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ] {الأحزاب:5} فَكَان يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنا فَضْلٌ، وَنحْن فِي مَنزِلٍ ضَيِّقٍ، فَقَالَ: أَرْضِعِي سَالِمًا تَحْرُمِي عَلَيْهِ»([39]).

وكذلك حذف إسحاق بن راهويه كلام الزهري لَمَّا روى رواية معمر فجاء في مسنده: أَخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنتُ سُهَيْلٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ ق فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِن سَالِمًا يُدْعَى لِأَبِي حُذَيْفَةَ، وَيَأْوِي مَعَهُ فَيَدْخُلُ عَلَيَّ فَيَرَاني فُضُلًا، وَنحْن فِي مَنزِلٍ ضَيِّقٍ، وَقَدْ قَالَ اللهُ D: [ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ ] {الأحزاب:5} الْآيَةُ. فَقَالَ: أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ»([40]).

فاقتصار إسحاق على ذكر الرواية دون الفتوى، دليل على لا يرى صحتها.

فهذا دليل تضعيفٍ من هؤلاء الأعلام لتلك الفتوى المنسوبة لأم المؤمنين.

سادسًا: سبب توهم الزهري وغيره

توهم الزهري وغيره بلوغهم رواية أمر أم المؤمنين ل بإرضاع سالم ليدخل عليها، وذلك دون تحديد لعمره، فعَن مَعْمَرٍ، عَن الزُّهْرِيِّ «أَن عَائِشَةَ أَمَرَتْ أُمَّ كُلْثُومٍ أَن تُرْضِعَ سَالِمًا، فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ يَكُن يَدْخُلُ سَالِمٌ عَلَى عَائِشَةَ»([41]).

فهذه الرواية مبهمة ليس فيها تحديد سن سالم بن عبد الله بن عمر، فظن الزهري أنه كان كبيرًا.

لكن الصواب: أن سالِمًا في هذا الوقت كان في سن الرضاع؛ ولذلك جاء في مصنف عبد الرزاق نفسِه أنه كان صغيرًا؛ حيث قال: أَخْبَرَنا ابْن جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ نافِعًا، يُحَدِّثُ أَن سَالِمَ بْن عَبْدِ اللهِ حَدَّثَهُ «أَن عَائِشَةَ زَوْجَ النبِيِّ ق، أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ ابْنةِ أَبِي بَكْرٍ لِتُرْضِعَهُ عَشْرَ رَضَعَاتٍ لِيَلِجَ عَلَيْهَا إِذَا كَبِرَ، فَأَرْضَعَتْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ يَكُن سَالِمٌ يَلِجُ عَلَيْهَا»([42]).

ويؤيد هذا أيضًا رواية موطأ مالك المصرحة بصغره، فعَن نافِعٍ؛ أَن سَالِمَ ابْن عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ «أَن عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنين أَرْسَلَتْ بِهِ وَهُوَ يَرْضَعُ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ بِنتِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ. قَالَ سَالِمٌ: فَأَرْضَعَتْني أُمُّ كُلْثُومٍ ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ تُرْضِعْني غَيْرَ ثَلَاثِ مِرَارٍ، فَلَمْ أَكُن أَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ مِن أَجْلِ أَن أُمَّ كُلْثُومٍ لَمْ تُتِمَّ لِي عَشْرَ رَضَعَاتٍ»([43]).

وإسنادهما صحيح، لكن الزهري ظن أن سالِمًا كان كبيرًا بسبب الرواية المبهمة فقال: «فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ، فِيمَن كَانتْ تُرِيدُ أَن يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِن الرِّجَالِ، فَكَانتْ تَأْمُرُ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنةَ أَبِي بَكْرٍ، وَبَناتَ أَخِيهَا يُرْضِعْن لَهَا مَن أَحَبَّتْ أَن يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِن الرِّجَالِ»([44]).

وعليه فروايتا عبد الرزاق ومالك تؤكدان خطأ الزهري؛ وتبع الزهري في هذا كثير من أهل العلم فنقلوا عبارته كما نقلها ابن عبد البر، فقال بعد ذكر الرواية: «وَالَّذِي عَلَيْهِ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ رَضَاعَةُ الْكَبِيرِ وَالتَّحْرِيمُ بِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ مِن بَيْن أَزْوَاجِ النبِيِّ ق حَمَلَتْ عَائِشَةَ حَدِيثَهَا هَذَا فِي سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ عَلَى الْعُمُومِ، فكانت تأْمُرُ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ وَبَناتِ أَخِيهَا أَن يُرْضِعْن مَن أَحَبَّتْ أَن يَدْخُلَ عَلَيْهَا، وَصَنعَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ بِسَالِمِ بْن عَبْدِ اللهِ ابْن عُمَرَ، وَأَمَرَتْ أُمَّ كُلْثُومٍ فَأَرْضَعَتْهُ فَلَمْ تُتِمَّ رَضَاعَهُ، فَلَمْ يدخل عليها»([45]).

فأنت ترى أنه نقل عبارة الزهري بنصها وقد سبق تضعيفها، وتتابع كثير من الفقهاء على ذلك، حتى اشتهر بعد أن لم يكن معروفًا في زمان ابن أبي مليكة، كما سبق تقريره.

سابعًا: الروايات التي يُفهم منها أن أم المؤمنين عائشة أفتت برضاع الكبير

سبق وقررنا أن قول الفقيه حتى يُنسب إليه لا بد أن يكون في صريح قوله ما يدل عليه، ولما لم يوجد هذا اختلف العلماء في حقيقة مذهب أم المؤمنين، لكن هناك عدة روايات قد يُفهم منها أنها كانت تفتي برضاع الكبير، لكن ليس في تلك الروايات تصريح بذلك، فإليك هذه الروايات مع توجيه كل رواية:

الرواية الأولى:

أخرج مسلم في «صحيحه» عَن زَيْنبَ بِنتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ: «إِنهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ، الَّذِي مَا أُحِبُّ أَن يَدْخُلَ عَلَيَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللهِ ق أُسْوَةٌ؟ إِن امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِن سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ رَجُلٌ، وَفِي نفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنهُ شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ق: «أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ»([46]).

فهذه القصة ما هي إلا حكاية حال وواقعة عين، فنحن لا ندري هل هذا الغلام أرسلت به أم المؤمنين عائشة ل ليرضع وهو طفل صغير أم لا؟!

أو أن أم سلمة كانت تكره إدخال أقاربها من الرضاعة عليها؛ فلذلك أنكرت على أم المؤمنين عائشة، فأجابتها عائشة بأكبر مما أنكرته وفَعَلَه رسول الله ق، وأنه رَضِيَ أن يَدخل سالمٌ على سهلة بمجرد رضاعه وهو كبير، فما الظن لو كان هذا الغلام قد رضع صغيرًا في سن الرضاع؟

ولعل الخلاف بين أم سلمة وعائشة ب، أن الأخيرة كانت ترى جواز إرضاع الصغير عمدًا لتحصل المحرمية به، وأم سلمة كانت لا ترى ذلك إلا اتفاقًا بدون ترتيب وقصد إثبات المحرمية، كما في قضية نكاح المحلل، فإنه لو حصل باتفاق مسبق وتعمد كان باطلًا، ولو حصل عرَضًا بدون اتفاق ونية مسبقة كان صحيحًا، فلعل أمَّ سلمة كانت تنكر حصول المحرمية إلا بالإرضاع عرضًا لا اتفاقًا، بخلاف أم المؤمنين عائشة، وهذه كلها احتمالات واردة.

جاء في (حاشيتي قليوبي وعميرة): «قَاعِدَةٌ ذَكَرهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ ا فِي الْوَقَائِعِ الْفِعْلِيَّةِ -وَهِيَ وَقَائِعُ الْأَحْوَالِ- إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ كَسَاهَا ثَوْبَ الْإِجْمَالِ وَسَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال»([47]).

وقال ابن القيم: «وَإِذَا احْتَمَلَتْ الْقِصَّةُ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا لَمْ يُجْزَمْ بِوُقُوعِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ»([48])؛ فكل الاحتمالات التي ترد على الخبر قوية محتملة.

والذي يظهر عندي: أن أم المؤمنين عائشة استفادت من قصة سالمٍ جواز الإرضاع لمجرد إدخال ذلك الطفل بعدما يكون رجلًا عليها؛ لتنقل علم رسول الله ق إلى التابعين دون حرج ولا مشقة، فأنكرت ذلك أم سلمة عليها، والدليل مع أم المؤمنين عائشة بلا شك.

فإذا قال البعض: إن الرواية أيضًا تحتمل أن يكون هذا الغلام الأيفع قد رضع بعدما جاوز السنتين، فنقول: فضلًا عن أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال، سقط به الاستدلال، فإن ما ثبت من الأدلة الصريحة السابقة يرُد هذا الاحتمال.

الرواية الثانية:

أخرج مسلم في «صحيحه» أن زَيْنبَ بِنتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَن أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النبِيِّ ق كَانتْ تَقُولُ: «أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النبِيِّ ق أَن يُدْخِلْن عَلَيْهِن أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَقُلْن لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللهِ لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ، وَلَا رَائِينا»([49]).

هذه الرواية أيضًا ليس فيها تصريح بأن أم المؤمنين عائشة كانت ترى جواز رضاعِ الكبير أو تفتي به، كل ما في الأمر هو تأكيد أزواج النبي على عائشة أنهن يَرَيْن عدم العمل بحديث سالم، وأنه خاص بسالم رخصة من رسول الله ق، فيحتمل أنهن أردْن من أم المؤمنين عائشة ألا تحدِّث بهذا الحديث حتى لا يظن الجاهل أنه ليس خاصًّا، ومن المعلوم أن العالم لا يجوز له أن يحدِّث بكل ما سمع، وقد قَالَ عَلِيٌّ: «حَدِّثُوا الناسَ بِمَا يَعْرِفُون؛ أَتُحِبُّون أَن يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ»([50]).

وقد كتم حذيفة أسماء المنافقين، ومن هذا الباب خاف أزواج النبي ق من التحديث بقصة سالم؛ خشية أن يتوهم الناس أن رضاع الكبير مشروع، وتتحقق به المحرمية، فتنقلب المحرمات إلى مباحات والعكس، وفي هذا فساد عظيم.

ويدل على هذا الخوف قصة ابن أبي مليكة([51]) لما حدثه القاسم بقصة سالم، فخاف أن يحدث الناس بها لمدة سنة؛ لأنها قد تُفهم خطأً، ويظن البعض أنها ليست خاصةً بسالم، فيحصل من ذلك شرٌّ كبيرٌ.

فالحاصل: أن أمهات المؤمنين خَشِين أن يحدثن بقصة سالم كحال ابن أبي مليكة، وكانت أم المؤمنين عائشة تحدث به، فسارعت أم سلمة إلى التنبيه هي وأمهات المؤمنين وَقُلْن لِعَائِشَةَ: «وَاللهِ مَا نرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللهِ  لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ، وَلَا رَائِينا»([52]).

هذا هو التفسير الذي يتناسب مع ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة، فضلًا عن أن الرواية مجرد حكاية حال وواقعة عين، وليس فيها تفصيل قول أم المؤمنين عائشة، والاحتمالات تدخلها، فسقط بها الاستدلال.

ولجأ الشيعة بعد ذلك إلى بعض أقوال الفقهاء، ونحن نتعرض لها سريعًا.

1. قالوا جاء في (فتح المنعم): «وكانت عائشة ل ترى أن إرضاعَ الكبير يحرمه، وأرضعت غلامًا فِعْلًا، وكان يدخل عليها»([53]).

والجواب عن قوله: «وكانت عائشة ل ترى أن إرضاع الكبير يحرمه» قد سبق تفصيلًا، وأما قوله: «وأرضعت غلامًا فعلًا، وكان يدخل عليها» فعلى الرغم من أن هذا يحتاج إلى إسناد، إلا أننا تنزلًا نقول: إن من فهم لغة العرب فلا شبهة عنده البتة، وذلك لأن الآمر بالفعل يُنسب إليه ذلك الفعل، ولا يشترط أن يكون هو الفاعل بنفسه، وهذا الذي يسمى في البلاغة بالمجاز العقلي، وهو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير صاحبه لعلاقة، مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي، ولا يكون إلا في التركيب.

كقولك: «أنبت الربيع البقل، وشفى الطبيب المريض، وكسا الخليفة الكعبة»([54]).

وهو في القرآن كثير؛ كقوله تعالى: [وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا] {الأنفال:2}. فنسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببًا فيها.

وكذا قوله تعالى: [وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ] {فصلت:23}([55]).

وفي حديث الغامدية التي زنت: «فَقَامَ رَجُلٌ مِن الْأَنصَارِ فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نبِيَّ الله، قَالَ: فَرَجَمَهَا»([56]) فهل لما قال الرجل: «إِلَيَّ رَضَاعُهُ» كان هو الذي سيرضعه فعلًا؟

وعليه، فالفعل قد نسب إليها؛ لأنها الآمرة بالإرضاع لا أكثر، وأما الغلام المقصود فلعله سالمٌ أو أَبو سَلَمَةَ بْن عَبْدِ الرَّحْمَن؛ قال ابن عبد البر: «وَأَرْضَعَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنتُ أَبِي بَكْرٍ أَبَا سَلَمَةَ، فَكَان يَتَوَلَّجُ عَلَى عَائِشَةَ»([57]) فسواء كان أحد هذين أو غيرهما، فإن إرضاع الغلام لا يعني أنه كبير، وإلا فقد جاء في كتب الشيعة:

في (الكافي) عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر أو أبي عبد الله  قالا: «إذا رضع الغلام من نساء شتى فكان ذلك عدة أو نبت لحمه ودمه عليه، حرم عليه بناتهن كلهن»([58]).

وقال ابن البراج: «وإن أرضعت هذه المرأة غلامًا، حرمت هي عليه وأولادها المنتسبون إليها»([59]).

فإذا كان المقصود بالغلام الذي جاوز الحولين، لزم أن الشيعة تقول برضاع الكبير.

2. ومما شغَّب به الشيعة في هذا السياق قولهم: وقع في إسناد مسلم «عَبْد اللهِ بْن يَزِيدَ رَضِيع عَائِشَةَ»([60])، فقالوا بحمق: المقصود أنها ل ترضع الرجال!

والجواب: أن العرب يقولون: رضيع فلان يعني أخاه من الرضاعة؛ قال الفيروزآبادي: «ورَضِيعُكَ: أخوكَ من الرَّضاعةِ»([61]).

فالمعنى: أخوها من الرضاع، وهو عبد الله بن يزيد، تَابِعِيٌّ بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة، وَكَانت أمه أرضعت عَائِشَة، عاشت بعد النبِي ق فولدته فَلذَلِك قيل لَهُ: «رَضِيع عَائِشَة»([62]).

فالاشتباه إنما جاءهم لجهلهم بلغة العرب، مع سوء الفهم والنية، وسواد الطوية.

ثامنًا: روايات الشيعة تثبت رضاع الكبير

جاء في تهذيب الأحكام عن داود بن الحصين، عن أبي عبد الله  قال: «الرضاع بعد الحولين قبل أن يفطم يحرم»([63]).

لكن الطوسي كالعادةِ ذبح الرواية بالتقية وبغيرها، فقال: «فهذا خبر شاذٌّ لا يعارض ما قدمناه من الأخبار لكثرتها، ويجوز أن يكون خرج مخرج التقية؛ لأنه مذهب لبعض العامة»([64]).

وفي الاستبصار عن داود بن الحصين، عن أبي عبد الله  قال: «الرضاع بعد حولين قبل أن يُفطَمَ يُحَرِّمُ»، قال الطوسي: «لأن هذا الخبر موافق للعامة وقد خرج مخرج التقية»([65]).

وفي من لا يحضره الفقيه عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله  قال: «الرضاع بعد حولين قبل أن يفطم يحرم»([66]).

فهذه الروايات أسانيدها عندهم صحيحة، ولذلك ذهبوا إلى أداة ذبح الحق عندهم، وهي التقية!

بل قالت الإمامية: إن مجرد شرب الصبي للبن تثبت به الحرمة، ففي (من لا يحضره الفقيه) قال: «وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ : وَجُورُ الصَّبِيِّ اللَّبَن بِمَنزِلَةِ الرَّضَاعِ»([67])، وجاء صريحًا في إرضاع الرجل الكبير:

قال البحراني: «في الموثق عن أبي عبد الله  قال: إذا رضع الرجل من لبن امرأة، حرم عليه كل شيء من ولدها، وإن كان الولد من غير الرجل الذي كان أرضعته بلبنه، وإذا رضع من لبن رجل حرم عليه كل شيء من ولده، وإن كان من غير المرأة التي أرضعت»([68]).

بل وجاء ما هو أغرب من ذلك، وهو رضاعة الرجل من الرجل!

فروى الكليني بسنده عَن أَبِي بَصِيرٍ، عَن أَبِي عَبْدِ اللهِ S قَالَ: «لَمَّا وُلِدَ النبِيُّ -صلى الله عليه وآله- مَكَثَ أَيَّامًا لَيْسَ لَهُ لَبَن، فَأَلْقَاهُ أَبُو طَالِبٍ عَلَى ثَدْيِ نفْسِهِ، فَأَنزَلَ اللهُ فِيهِ لَبَنا فَرَضَعَ مِنهُ أَيَّامًا حَتَّى وَقَعَ أَبُو طَالِبٍ عَلَى حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهَا»([69]).

وقال ابن شهر آشوب: «وصار عليٌّ ابنه (أي النبي) من وجهين، أولهما: أنه رباه حتى قالت فاطمة بنت أسد: كنت مريضة فكان محمد يمص عليًّا لسانه في فيه فيرضع بإذن الله...»([70]).

ويبدو أن النبي  (عندهم) لم يكتفِ بإرضاع عليٍّ من لسانه، فأرضع الحسين من إصبعه، ومن لسانه! فروى الكليني عَن أَبِي عَبْدِ اللهِ  قَالَ: إِن جَبْرَائِيلَ  نزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وآله- فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، إِن اللهَ يُبَشِّرُكَ بِمَوْلُودٍ يُولَدُ مِن فَاطِمَةَ تَقْتُلُهُ أُمَّتُكَ مِن بَعْدِكَ... وَلَمْ يَرْضَعِ الْحُسَيْن مِن فَاطِمَةَ  وَلَا مِن أُنثَى، كَان يُؤْتَى بِهِ النبِيَّ فَيَضَعُ إِبْهَامَهُ فِي فِيهِ فَيَمُصُّ مِنهَا مَا يَكْفِيهَا الْيَوْمَيْن وَالثَّلَاثَ، فَنبَتَ لَحْمُ الْحُسَيْن  مِن لَحْمِ رَسُولِ اللهِ وَدَمِهِ، وَلَمْ يُولَدْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَّا عِيسَى ابْن مَرْيَمَ  وَالْحُسَيْن بْن عَلِيٍّ .

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَن أَبِي الْحَسَن الرِّضَا  أَن النبِيَّ -صلى الله عليه وآله- كَان يُؤْتَى بِالْحُسَيْن فَيُلْقِمُهُ لِسَانهُ، فَيَمُصُّهُ فَيَجْتَزِئُ بِهِ، وَلمْ يَرْتَضِعْ مِن أُنثَى»([71]).

روى الطوسي في الغيبة بسنده عن موسى بن محمد بن جعفر قال: «حدثتني حكيمة بنت محمد  بمثل معنى الحديث الأول، إلا أنها قالت: فقال لي أبو محمد : يا عمة إذا كان اليوم السابع فأتينا.

فلما أصبحت جئت لأسلم على أبي محمد، وكشفت عن الستر لأتفقد سيدي فلم أره، فقلت له: جعلت فداك، ما فعل سيدي؟ فقال: يا عمة استودعناه الذي استودعت أم موسى. فلما كان اليوم السابع جئت فسلمت وجلست فقال: هلموا ابني، فجئ بسيدي وهو في خرق صفر ففعل به كفعله الأول، ثم أدلى لسانه في فيه كأنما يغذيه لبنا وعسلًّا، ثم قال: تكلم يا بني فقال : أشهد ألا إله إلا الله، وثنى بالصلاة على محمد وعلى الأئمة حتى وقف على أبيه...»([72])

وبعد كل هذا فنقول: إن دين الشيعة يقول بإباحة رضاع كل كبير من أي امرأة غير محارمه بمجرد أن يتفق على الأجرة، وهو ما يسمونه بزواج المتعة، وفيه يجوز للرجل أن يستمتع بالمرأة حسب الاتفاق، فإن أحلت له صدرها جاز أن يرضعه، فإن أحلت له فرجها جاز له كل شيء.

 فقد روى الكليني بسنده عَن الْفُضَيْلِ بْن يَسَارٍ قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ : جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِن بَعْضَ أَصْحَابِنا قَدْ رَوى عَنكَ أَنكَ قُلْتَ: إِذَا أَحَلَّ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ جَارِيَتَهُ فَهِيَ لَهُ حَلَالٌ؟ فَقَالَ: «نعَمْ يَا فُضَيْلُ»، قُلْتُ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ عِندَهُ جَارِيَةٌ لَهُ نفِيسَةٌ وَهِيَ بِكْرٌ، أَحَلَّ لِأَخِيهِ مَا دُون فَرْجِهَا، أَلَهُ أَن يَقْتَضَّهَا؟ قَالَ: «لَا، لَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَا أَحَلَّ لَهُ مِنهَا، وَلَوْ أَحَلَّ لَهُ قُبْلَةً مِنهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ مَا سِوى ذلِكَ». قُلْتُ: أَرَأَيْت إِن أَحَلَّ لَهُ مَا دُون الْفَرْجِ فَغَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ فَاقْتَضَّهَا؟ قَالَ: «لا يَنبَغِي لَهُ ذلِكَ». قُلْتُ: فَإِن فَعَلَ أَيَكُون زَانيًا؟ قَالَ: «لَا، وَلكِن يَكُون خَائِنا، وَيَغْرَمُ لِصَاحِبِهَا عُشْرَ قِيمَتِهَا إِن كَانتْ بِكْرًا، وَإِن لَمْ تَكُن بِكْرًا فَنصْفَ عُشْرِ قِيمَتِهَا»([73]).

اقرأ أيضا| إخبارها أنه  كان يباشرها وهي حائض.. الرد الكامل على شبهات الشيعة

([1]) موطأ مالك (2/605).

([2]) الطبقات الكبرى، ابن سعد (8/271).

([3]) كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي (1/270).

([4]) المخصص، ابن سيده (4/370).

([5]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الكاساني (4/8).

([6]) الأم، الشافعي (5/33).

([7]) الاستذكار، ابن عبد البر (6/255).

([8]) صحيح مسلم (2/1078).

([9]) الحَنفِيَّة: المبسوط للسرخسي (5/121)؛ تبيين الحقائق للزيلعي (2/182)، والمالِكيَّةِ: الشرح الكبير للدردير (2/503)؛ منح الجليل لعليش (4/374)، والشَّافِعيَّةِ: مغني المحتاج للشربيني (3/416)؛ الغرر البهية لزكريا الأنصاري (4/374)، والحَنابِلةِ: المبدع لبرهان الدين ابن مفلح (8/146)؛ كشاف القناع للبهوتي (5/445).

([10]) الاستذكار، ابن عبد البر (6/256).

وقال ابن القيم: «قال الشَّافعيُّ، وأحمَدُ، وأبو يُوسُفَ، ومُحمَّدٌ: هو ما كان في الحولَين، ولا يُحَرِّمُ ما كان بعدَهما، وصَحَّ ذلك عن عُمَرَ، وابن مَسعودٍ، وأبي هُرَيرةَ، وابن عبَّاسٍ، وابن عُمَرَ، ورُوِيَ عن سعيدِ بن الْمُسَيِّبِ، والشَّعبيِّ، وابن شُبرُمةَ، وهو قَولُ سُفيان، وإسحاقَ، وأبي عُبيدٍ، وابن حَزمٍ، وابن الْمُنذِرِ، وداودَ وجُمهورِ أصحابِه». زاد المعاد (5/513).

([11]) صحيح مسلم (2/1086).

([12]) زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم (5/515).

([13]) مصنف عبد الرزاق، الصنعاني (7/469).

([14]) موطأ مالك، ت الأعظمي (4/870).

([15]) صحيح البخاري (7/10).

([16]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، القرطبي (4/188).

([17]) مسند ابن الجعد (ص46).

([18]) مسند الموطأ للجوهري (ص172).

([19]) التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (1/25).

([20]) صحيح مسلم (2/1086)، مصنف عبد الرزاق الصنعاني (7/458).

([21]) موطأ مالك (2/605)، مشاهير علماء الأمصار، ابن حبان (ص135).

([22]) الاستذكار، ابن عبد البر (6/255).

([23]) أحكام القرآن، الجصاص (1/497).

([24]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الكاساني (4/6).

([25]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية (34/60).

([26]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (7/458).

([27]) تهذيب التهذيب، ابن حجر (7/203).

([28]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (40/378).

([29]) سير أعلام النبلاء، الذهبي (5/86).

([30]) سير أعلام النبلاء، الذهبي (5/86).

([31]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (7/459).

([32]) سير أعلام النبلاء، الذهبي (5/338).

([33]) سير أعلام النبلاء، الذهبي (5/339).

قال علي بن المديني: «مرسلات الزهري رديئة». تاريخ دمشق، ابن عساكر (55/369).

قال الذهبي: «ومِن أوهى المراسيل عندهم: مراسيلُ الحَسَن، وأوهى من ذلك: مراسيلُ الزهري، وقتادة، وحُمَيد الطويل، من صغار التابعين، وغالبُ المحقِّقين يَعُدُّون مراسيلَ هؤلاء مُعْضَلاتٍ ومنقطِعاتٍ». الموقظة (ص40).

وقال ابن القيم: «فمراسيلُ الزُّهْرِيِّ عِندهم من أَضْعَف الْمَرَاسِيل، لَا تصلح للاحتجاج». تحفة المودود بأحكام المولود (ص170).

([34]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (7/459).

([35]) فتح الباري، ابن رجب (8/12).

([36]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (7/460).

([37]) سير أعلام النبلاء، الذهبي (6/332).

([38]) الْمُدْرَجُ عرَّفه الذهبي بأنه: «ألفاظٌ تقعُ من بعض الرواة متصلةً بالْمَتْن، لا يبِين للسامع إلا أنها من صُلْبِ الحديث، ويَدلُّ دليلٌ عَلَى أنها مِن لفظِ راوٍ، بأن يأتي الحديثُ مِن بعضِ الطرق بعبارةٍ تَفْصِلُ هذا من هذا». الموقظة (ص53).

ومن طرق معرفة المدرج: أن يصرح بعض الرواة بالفصل، كما هو حاصل هنا في روايتي معمر ومالك عن الزهري، أو أن يقتصر بعض الرواة على الأصل فقط كما هي رواية ابن جريج.

قال الحافظ: «والطرق إلى معرفة كونه مدرجًا: أن تأتي رواية مفصلة للرواية المدرجة وتتقوى الرواية المفصلة، بأن يرويه بعض الرواة مقتصرًا على إحدى الجملتين». النكت على كتاب ابن الصلاح (2/836).

قال الجزائري: «وَمن ذَلِك -أي من طرق معرفة المدرج- تَصْرِيح بعض الروَاة بِالْفَصْلِ، وَذَلِكَ بإضافته لقائله ويتقوى باقتصار بعض الروَاة على الأَصْل». توجيه النظر إلى أصول الأثر، طاهر الجزائري (1/411).

([39]) مسند أحمد (43/86).

فهذه رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بدون الفتوى المنسوبة لأم المؤمنين التي في مصنف عبد الرزاق، وقد كان الإمام أحمد على علم برواية المصنف تهذيب الكمال في أسماء الرجال (18/57)..

قَال الأثرم أيضًا: «سمعت أبا عَبد اللهِ يسأل عن حديث «النارُ جُبَار»، فقال: هذا باطل ليس من هذا شيء، ثم قال: ومن يحدث به عن عبد الرزاق؟ قلت: حَدَّثَني أحمد بن شبويه. قال: هؤلاء سمعوا بعدما عمي، كان يلقن فلقنه، وليس هو في كتبه، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه كان يلقنها بعدما عمي»، فهذا دليل علم الإمام أحمد برواية عبد الرزاق بالفتوى المدرجة، ولكنه تركها عمدًا لعلمه أنها لا تصح، وهو دليل على أن الإمام أحمد يرى بطلان الفتوى المنسوبة إلى أم المؤمنين عائشة ل، ولذلك حذفها.

([40]) مسند إسحاق بن راهويه (2/200).

([41]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (7/469).

([42]) المصدر السابق.

([43]) موطأ مالك، ت الأعظمي (4/870).

([44]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (7/459).

([45]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (8/256).

([46]) صحيح مسلم (2/1077).

([47]) حاشيتا قليوبي وعميرة (3/259).

([48]) الطرق الحكمية (ص196).

وقال أيضًا: «فَهِيَ وَاقِعَةُ عَيْن... وَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا... وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْجَزْمِ بِوَاحِدٍ مِن هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى التَّعْيِين... فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ أَحَادِيثِ النهْيِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ بِهَذَا الْمُحْتَمَلِ». زاد المعاد في هدي خير العباد (2/351 -352).

وقال الكاساني: «فَلَا يَكُون حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ؛ لِأَن حِكَايَةَ الْحَالِ لَا عُمُومَ لَهُ». بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (6/121).

([49]) صحيح مسلم (2/1078).

([50]) صحيح البخاري (1/37).

وذكر الشيعة في كتبهم تبريراتٍ كثيرةً لكتمان أئمتهم للعلم، ومن ذلك ما ذكره الجزائري قال: «وَإِمَّا -أي كتمان العلم- لِكَوْن الكشف مفسدة للمستمعين وإن كان لا يتعسر عليهم إدراكه، وسببًا لافتتانهم، أو لتفويت مصلحة راعاها الشارع الحكيم في التعبير عن بعض المسميات بغير أسمائها، وتصوير بعض المعاني في غير قوالبها المعروفة تمثيلًا ورمزًا؛ لكون ذلك أوقع في النفوس وأدخل في حصول الغرض المطلوب من الترغيب والترهيب والوعد والوعيد.

ومن ذلك: بيان حقيقة الكسوف والخسوف على النهج المقرر في الهيئة، وتأويل الملائكة الجاذبة الدافعة بروحانيات الشمس، والبحر المظلم بظل الأرض، ونحو ذلك، وهذا النوع عريض جدًّا ويندرج تحته كثير من متشابهات الكتاب والسنة، إلا أن الخوض فيه مما يختص بأهله.

وكان أكابر الصحابة مع ما هم فيه من تقارب المنازل والتشارك في بركة الصحبة، يستخفِي بعضهم من بعض بِسِره، وفي الحديث: «لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله»؛ ولقد آخى رسول الله بينهما، فما ظنك بسائر الناس؟

وعن أمير المؤمنين S: «اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة»، وعنه S: «حملت عن النبي -صلى الله عليه وآله- دعامين من العلم، أما واحدٌ فبثثته فيكم، وأما الآخرُ فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم»، وسأله كميل بن زياد النخعي: وقد بلغك جلالة قدره عن الحقيقة؟ فقال S: مالك والحقيقة؟ قال: أولست صاحب سرك؟ قال: بلى؛ ولكن يرشح عليك ما يطفح مني الحديث».

ومما نسبه المصنف في كثير من مسفوراته إلى علي بن الحسين -صلوات الله عليهما- وغيره إلى غيره:

إني لأكتُم من علمي جواهره
 

\

 كيلا يرى الحق ذو جـهل فيفتَتِنا
 

وقد تقدم فــي هذا أبو حسن
 

\

 إلى الحسين ووصى قـبله الحسنا
 

يا رب جوهر علم لو أبوح به
 

\

 لقيل لـي أنت ممن يعبد الوثنا
 

ولاستحل رجال مسلمون دمي
 

\

 يرون أقبح ما يأتونه حسنا
 

التحفة السنية (مخطوط)، عبد الله الجزائري (ص8).

([51]) أَن الْقَاسِمَ بْن مُحَمَّدِ بْن أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَهُ أَن عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَن سَهْلَةَ بِنتَ سُهَيْلِ بْن عَمْرٍو جَاءَتِ النبِيَّ ق فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِن سَالِمًا -لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ- مَعَنا فِي بَيْتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ. قَالَ: «أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ» قَالَ: فَمَكَثْتُ سَنةً أَوْ قَرِيبًا مِنهَا لَا أُحَدِّثُ بِهِ، وَهِبْتُهُ، ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ حَدَّثْتَني حَدِيثًا مَا حَدَّثْتُهُ بَعْدُ. قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَحَدِّثْهُ عَني أَن عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنيهِ». صحيح مسلم (2/1076).

([52]) صحيح مسلم (2/1078).

([53]) فتح المنعم شرح صحيح مسلم، موسى شاهين لاشين (5/622).

([54]) بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، عبد المتعال الصعيدي (1/57).

([55]) انظر: بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، عبد المتعال الصعيدي (1/61).

([56]) صحيح مسلم (3/1321).

([57]) التمهيد، ابن عبد البر (7/61).

([58]) الكافي، الكليني (5/446)، وصححها النراقي في مستند الشيعة (16/270).

([59]) المهذب، القاضي ابن البراج (2/190).

([60]) صحيح مسلم (2/654).

([61]) القاموس المحيط (ص722).

([62]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني (20/97).

([63]) تهذيب الأحكام، الطوسي (7/318).

([64]) تهذيب الأحكام، الطوسي (7/318).

([65]) الاستبصار، الطوسي (3/198).

([66]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق (3/476).

وجاء ابن الجنيد فقال: «إذا أرضعته بعد تمام الحولين، فإنه ينشر الحرمة طالما لم يتخلل فطام». قال الجواهري: «وخلاف ابن الجنيد؛ حيث نشر الحرمة بعد الحولين ما لم يتخلل فطام». جواهر الكلام، الجواهري (29/300).

([67]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق (3/479).

([68]) الحدائق الناضرة، البحراني (23/320)؛ وانظر: الاستبصار، الطوسي (3/201)، وسائل الشيعة، الحر العاملي (20/403 – 404).

([69]) الكافي، الكليني (1/448).

([70]) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (2/18)، وبحار الأنوار، المجلسي (38/318).

([71]) الكافي، الكليني (1/464 – 465).

([72]) الغيبة، الطوسي (ص237).

([73]) الكافي، الكليني (٥/٤٦٨).


لتحميل الملف pdf

تعليقات