من الشبهات التي يَكْثُر طرحُ الرافضة لها في حق الشيخين أبي بكر وعمر ، أنهما اختلفَا وتنازعا في حضرة النبي ، وارتفعت أصواتهما عنده.
وتفصيل ذلك ما جاء في «صحيح البخاري» في كتاب التفسير من طريق ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير قال: «قدم ركب من بني تميم على النبي ، فقال أبو بكر: أَمِّر القعقاعَ بن معبد، وقال عمر: أمِّرِ الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردتَ إلا خلافي، فقال عمر: ما أردتُ خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ {الحجرات:1}»([1]).
قال الأميني معلقًا على الحديث: «ألا تعجب من الرجلين أنهما طيلة مصاحبتهما هذا النبي المعظم صلى الله عليه وآله وسلم لم يحدهما التأثر بأخلاقه الكريمة إلى الحصول على أدب محاضرة العظماء والمثول بين أيديهم لاسيما هذا العظيم، العظيم خلقه بنص الذكر الحكيم، وما عرفا أن الكلام بين يديه لا بد وأن يكون تخافتًا وهمسًا؛ إكبارًا لمقامه، وإعظامًا لمرتبته، وألا يتقدم أحد إليه بالكلام إلا أن يكون جوابًا عن سؤال، أو ما ينم عن امتثال أمر، أو إخبارًا عن مهمة، أو سؤالًا عن حكم، لكنهما تقدما بالكلام الخارج عن ذلك كله، وتماريا واحتدم الحوار بينهما، وارتفعت أصواتهما في ذلك، وكاد الخيران أن يهلكا حتى جعلا أعمالهما في مظنة الإحباط؛ فنزلت الآية الكريمة»([2]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: كل ما في الرواية أنه حصل خلاف في أمر التولية على وفد بني تميم بين أبي بكر وعمر، واختلفت آراؤهما في المسألة، ووصل الحد إلى أن ارتفعت أصواتهما، فنزلت الآيةُ معلمةً وموضحةً للصحابة وللأمة من بعدهم.
ومن المعلوم أنه لا عقوبة ولا جريمة قبل ورود النص، ولم يكن قد ورد النهي عن مجرد رفع الصوت عنده، وقد نزل القرآن ليؤدب الصحابة لا لمجرد اللغو، وإلا فلو كانوا جميعًا معصومين وعلى الأخلاق التي جاء الإسلام ليتممها لهم لما كان هناك حاجة للشريعة، وهذا لا قائل به، فثبت بداهةً أن القرآنَ يربي الصحابة والأمة من بعدهم، فإذا نزل نهي عن شيء فلا يلام فاعلُه قبل النهي، وإنما يلام بعده؛ ولذلك جاء في الصحيحين: «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ا أَنَّ النَّبِيَّ افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ، مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: شَرٌّ، كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ ق فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ مُوسَى: فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ الآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَالَ: «اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»([3]).
فهذا رجل ظن أنه من أهل النار لمجرد ظنه جريان الحكم الذي ذكرته الآية عليه قبل نزولها، فخطَّأ النبيُّ ظنَّه، وأخبره أنه من أهل الجنة، فهل يقر الشيعة بتصويب رسول الله لهم فهمهم للآية، وأن فاعل الذنب قبل تشريعه لا عقوبة عليه؟
وإلا فلو جرَى الحكمُ على كلِّ أحدٍ فعل ذلك قبل نزول الآية لجرى علَى علِي ا، فقد قال القرطبي في تفسيره: «وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ : نَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿ لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ {الحجرات:2} فِينَا لَمَّا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا أَنَا وَجَعْفَرٌ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، نَتَنَازَعُ ابْنَةَ حَمْزَةَ لَمَّا جَاءَ بِهَا زَيْدٌ مِنْ مَكَّةَ، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ ق لِجَعْفَرٍ؛ لِأَنَّ خَالَتَهَا عِنْدَهُ»([4]).
فيكون علِي أول من يدخل في الحكم على قول الشيعة.
لكننا نقول: إن الآية أول ما نادت هؤلاء الأفاضل صدرت القول بالمدح لهم فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ {الحجرات:1}.
وبعد هذا النهي أكَّد اللهُ على إيمانهم بالآية التي تليها فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ {الحجرات:2}، فالآيةُ تقول مؤمنون، والشيعة يقولون مرتدون!
ثانيًا: ورد في نفس رواية البخاري: «قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ ق بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ».
وفي هذا دليل: أنهما ب ما عادَا لمثل هذا الفعل أبدًا بعد نزول الآية.
قال عليٌّ القاري: «كأخي السِّرار -بكسر السين المهملة-، أي: إلَّا مشابهًا لصاحب النجوى والمساررة، والمعنى: لا أكلمك إلا سرًّا، وأنَّ عمر ا كما في «البخاري»: (كان إذا حدَّثه) أي: كلمه عليه الصلاة والسلام (حدَّثه كأخي السّرار)، أي: في خفض صوته، كما بيَّنه بقوله: (مَا كَانَ يُسْمِعُ رَسُول اللهِ) بضم الياء وكسر الميم، (بعد هذه الآية) وفي نسخة (بعد هذه الآية)، أي: بعد نزولها، (حتَّى يستفهمه) أي: النبي من عمر عما سارره به لكمال إخفائه»([5]).
ثالثًا: ورد في كتبِ الرافضة ما يدل على أنَّ الثقة الجليل عندهم «زرارة ابن أعين» رفع صوته في حضرة الباقر، ومع ذلك برروا فعلتَه، واعتذروا له باعتذارات شتى.
فقد روى الكليني بسنده عن زرارة قال: «دخلت أنا وحمران -أو أنا وبكير- على أبي جعفر قال: قلت له: إنا نمد المطمار، قال: وما المطمار؟ قلت: التر، فمن وافَقَنا من علوي أو غيره توليناه، ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زُرارة، قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله: ﴿ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ﴾ {النساء:98}، أينَ المرجون لأمر الله؟ أين الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا؟ أين أصحاب الأعراف؟ أين المؤلفة قلوبهم؟
وزاد حماد في الحديث: «قال: فارتفع صوت أبي جعفر وصوتي، حتى كان يسمَعُه مَن على باب الدار.
وزاد فيه جميل عن زرارة: «فلما كثر الكلام بيني وبينه قال لي: يا زرارة، حقًّا على الله أن [لا] يدخل الضلال الجنة»([6]).
فهذه الرواية تبين أن زرارة كان يجادلُ الإمام، بل وصل به الحال أن رفع صوته بحضرته حتى كان يسمعه مَن على باب الدار.
يقول المجلسي عن الحديث: «الحديث الثالث: حسن كالصحيح»، وقال معلقًا عليه: «فارتفع صوت أبي جعفر»، هذا مما يقدح به في زرارة ويدل على سوء أدبه، ولما كانت جلالته وعظمته ورفعة شأنه وعلو مكانه مما أجمعت عليه الطائفة، وقد دلت عليه الأخبار المستفيضة، فلا يعبأ بما يوهم خلاف ذلك.
ويمكن أن يكون هذه الأمور:
هو في بدو أمره قبل كمال معرفته.
أو كان هذا من طبعه وسجيته، ولم يمكنه ضبط نفسه، ولم يكن ذلك لشكه وقلة اعتنائه.
أو كان قصده معرفة كيفية المناظرة في هذا المطلب مع المخالفين.
أو كان لشدة تصلبه في الدين وحبه لأئمة المؤمنين؛ حيث كان لا يجوز دخول مخالفيهم في الجنة»([7]).
فبعد أن اعترف المجلسي أن الرواية دالة على سوء أدب زرارة مع الباقر، حاول الاعتذار لفعله، وذكر جملة من الاحتمالات.
ومن باب الإلزام: يمكن أن يقال كذلك: إن ما صدر من الصديق:
(كان هذا من طبعه وسجيته، ولم يمكنه ضبط نفسه).
أو نقول مثلًا: إن هذا كان (لشدة تصلبه في الدين)، ومثله يمكن أن يقال في الفاروق، أم أن هذه التبريرات حِكر على أصحاب الأئمة دون أصحاب رسول الله؟!
وقال المازندراني أيضًا: «قال زرارة: «فارتفع صوت أبي جعفر وصوتي حتى يكاد يسمعه مَن على باب الدار»، دل على سوء أدب زرارة وانحرافه، والحق أنه من أفاضل أصحابنا، وأنه منزه عن مثل ذلك، وكأن قوله هذا كان قبل استقرارِه على المذهب الصحيح، أو كان قصده معرفة كيفية المناظرة في هذا المطلب وتحصيل المهارة فيه؛ ليناظر مع الخوارج وأضرابهم، ورأى أن المبالغة فيها لا تسوؤه بل تعجبه، والله يعلم»([8]).
ويلاحظ أن المازندراني اعترف بقلة أدب زرارة وزاد على ذلك انحرافه، لكنه كسابقه حاول الترقيع لفعله، وإيجاد مخرج له ولو بالتكلف.
وقد علق محقق الكتاب الشعراني على هذا الموضع قائلًا: «قوله: «على سوء أدب زرارة وانحرافه»، أما سوء الأدب فهو كذلك، وأما الانحراف فلا يدل كلامه عليه؛ إذ رُبَّ محب يطيش فيخرج عن الأدب لا عن الحب، وليس كلُّ أحد معصومًا عن الزلل، أمَا رأيت ولدًا بارًّا بوالديه قد يتفق عند الغضب أن يخشن الكلام ويهجر الوالد، ثم يندم من قريب ويعتذر.
وروي عن ابن عباس أشد من ذلك بالنسبة إلى أمير المؤمنين، وكان تابعًا وليًّا له من أول عمره إلى آخره، بعد ذاك العتاب وقبله، بل يدل هذا الحديث على أن زرارة مفرطٌ في الولاية، مبالغٌ فيه، زائدٌ متجاوزٌ عن الحد الذي كان يرضى به الإمام، وكان يرى أن كل متخلف عن أهل البيت كافر، وردعه عنه الإمام بأن المستضعفين من الضلال في الجنة»([9]).
فالمحقق وإن نازع في دلالة الحديث على انحراف زرارة، لكنه لم يجد بُدًّا منَ الاعتراف بقلة أدبه، لكنه كسابقيه حاول التبرير لفعله، والعجيب أنه جعل قلة الأدب هذه دليلًا على المدح، وعلامةً على فرط المحبة والولاية لأهل البيت.
وما أجمل ما قال: «وليس كلُّ أحد معصومًا عن الزلل»؛ وهذا عين ما نقوله في حق أصحاب رسول الله .
فما المانع أن يقولوا بمثل هذا في حق أبي بكر وعمر؟!
رابعًا: الاعتراض على النص يبين منهجية الشيعة مع الصحابة، فإنهم يتمسكون بالخطأ الواحد ولو تاب صاحبه منه، ولو عفا الله عنه، ثم يعممونه على كل أحوال الصحابة ويقولون: لم يتعلموا من الرسول الأخلاق! فانظر أيها العاقل هذه النفسية التي نشأت عنها شبهاتهم، هل يمكن أن يَنتج عنها اعتقاد وتصور صحيح في مسألة الصحابة؟
اقرأ أيضا| طعنهم في الصديق لحزنه في الغار باعتبار ذلك معصية
([1])صحيح البخاري (7/686).
([2]) الغدير، الأميني (٧/٢٢٣).
([3]) صحيح البخاري (6/137).
([4]) تفسير القرطبي (16/304).
([5]) شرح الشفا، علي القاري (2/67).
([6]) الكافي، الكليني (٢/٣٨٣).
([7]) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، المجلسي (11/106).
([8]) شرح أصول الكافي، المازندراني (١٠/٥٤).
([9]) شرح أصول الكافي، المازندراني (١٠/٥٤) تعاليق أبي الحسن الشعراني.
لتحميل الملف pdf