شبهات وردود

حديث عائشة في عبوس النبيّ صلى الله عليه وسلم في وجه الأعمى

الشبهة الثالثة والعشرون

حديث عائشة في عبوس النبيّ صلى الله عليه وسلم في وجه الأعمى

 

محتوى الشبهة:

من الأحاديث التي هي مثار تشنيع من كثير من الرافضة، ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصة نزول قول الله تعالى: (عبس وتولى).

فقد أخرج الحاكم بسنده عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: "أُنْزِلَتْ عَبْسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى فَقَالَتْ: أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَقُولُ: أَرْشِدْنِي، قَالَتْ: وَعِنْدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْرِضُ عَنْهُ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَقُولُ: «أَتَرَى مَا أَقُولُ بَأْسًا» فَيَقُولُ: «لا»، فَفِي هَذَا أُنْزِلَتْ (عَبَسَ وَتَوَلَّى). «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، فَقَدْ أَرْسَلَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ".([1])

الرد التفصيلي على الشبهة:

أولاً: للآية سبب نزول بمجموع الطرق، ولسياق آيات الكتاب العزيز يصح ألا وهو: أن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو قوماً إلى الإسلام منهم كبراء قريش، وكان صلى الله عليه وسلم منشغلاً في دعوتهم إلى الإسلام راغباً في هدايتهم إليه، فأقبل ابن أم مكتوم وهو يقول: أرشدني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! والنبي صلى الله عليه وسلم مقبل على الحديث مع أئمة الكفر يدعوهم إلى الإسلام، وابن أم مكتوم يكرر: أرشدني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إليه، ثم التفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم متضايقاً ، وقال ابن أم مكتوم: أترى بما أقول بأساً يا رسول الله؟! فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1-2] أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبس وتولى لمجيء الأعمى.

والحديث لم تتفرد بروايته أم المؤمنين رضي الله عنها، فقد روي أيضًا من طريق أنس رضي الله عنه.

قال أبو يعلى: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1] جَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُكَلِّمُ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (عَبَسَ وَتَوَلَّى)، قَالَ: فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ يُكْرِمُهُ".([2])

يقول سليم الهلالي عن هذا الطريق: "أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره"؛ كما في "تخريج الكشاف" (4/156، 157)، ومن طريقه أبو يعلى في "المسند" (5/ 431، 432 رقم 3123) -: نا معمر عن قتادة؛ قال: قال لي أنس بن مالك به.

قلنا: وهذا سند صحيح على شرط الشيخين وصرح قتادة بالتحديث.

وأخرجه الطبري في "جامع البيان" (30/ 33) من طريق يزيد بن زريع ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس؛ قال: فذكر الشطر الأخير منه فقط. وسنده صحيح على شرطهما".([3])

وهذه الواقعة ليس فيها أي مطعن في النبيّ صلى الله عليه وسلم من قريب ولا من بعيد.

يقول ابن عثيمين: "ولا شك أن هذا اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم وليس احتقاراً لـابن أم مكتوم؛ لأننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم لا يهمه إلا أن تنتشر دعوة الحق بين عباد الله وأن الناس عنده سواء، بل من كان أشد إقبالاً على الإسلام فهو أحب إليه، هذا ما نعتقده في رسول الله صلى الله عليه وسلم".([4])

ثانيًا: كثير من علماء الرافضة المتقدمين والمتأخرين أثبتوا نزول هذه الآيات في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الطبرسي: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن شريح بن مالك الفهري، وهو ابن أم مكتوم، وعنده صناديد قريش: أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، والعباس بن عبد المطلب، وأبي وأمية ابنا خلف، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس، وأقبل على القوم يكلمهم، فنزلت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي".([5])

قال محمد جواد مغنية: "اختلفوا في العابس فقيل: إنه مجهول ولهذا القول وجه لأن الله سبحانه ذكره بضمير الغائب ولم يبين لنا ما هو ومثله كثير في القران... وقيل هو رجل من بني أمية كان عند رسول الله فلما رأى الأعمى تقذر منه وأعرض عنه. والمشهور بين المفسرين وغيرهم أن الذي عبس وتولى هو رسول الله، وأن السبب لذلك أن ابن ام مكتوم أتام وهو في مكة...هذا ما ذهب إليه أكثر المفسرين وله وجه أرجح وأقوى من الوجه الأول لمكان ضمير المخاطب (أنت) فأن المراد به الرسول بحسب الظاهر".([6])

وعبارات علماء الرافضة في هذا الصدد، واعترافهم بأنها نزلت في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرة، يضيق المقام بسردها جميعا، ونكتفي بما ذكره محمد حسين فضل الله لما أورد أسماء علماء الشيعة القائلين بهذا القول، حيث يقول: "لقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لقي ابن أم مكتوم قال له : (مرحباً بمن عاتبني فيه ربي) أو (والله لا يعاتبني فيك ربي أبداً) كما جاء في (مجمع البيان)، وقد نقل عن المرتضى ـ ـ أن ذلك لا ينافي عصمة النبي صلى الله عليه وسلم كما أن حمله على أنها نزلت في رجل من بني أمية ينافي سياق الآيات التي تعتبر أن المخاطب من شأنه التزكية ولا ينطبق ذلك إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وقد تعرضنا على ذلك في (من وحي القرآن) في الجزء الرابع والعشرين ص57".

ثم يقول في الهامش: "هناك الكثير من المفسرين الشيعة من القدماء والمعاصرين يختارون نزولها أو أمكانية نزولها على أقل التقدير في النبي صلى الله عليه وسلم ومن دون أن يمس ذلك بعصمته وأخلاقياته، وإليك قائمة بأسماء بعض هؤلاء الأعلام :

الطبرسي في تفسيريه (مجمع البيان) و(جوامع الجامع).

الطريحي في تفسيره (غريب القرآن).

ابن أبي الجامع العاملي في تفسيره (الوجيز).

الميرزا محمد المشهدي في تفسيره (كنز الدقائق).

السيد ابن طاووس في كتابه (سعد السعود).

أبو جعفر النجاشي في تفسيره (معاني القرآن).

الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتاب (العين) ([7]).

الثائر الشهيد زين بن علي بن الحسين في التفسير المنسوب إليه (غريب القرآن).

المجلسي في كتابه (بحار الأنوار).

محسن الأمين في موسوعته (أعيان الشيعة).

 محمد جواد مغنية العاملي في تفسيريه (الكاشف) و (المبين).

محمود الطالقاني في تفسيره (برتوي از قرآن) (قبس من القرآن) بالفارسية.

 ملا فتح الله الكاشاني في تفسيره (منهج الصادقين) بالفارسية.

هاشم معروف الحسني في كتابه (سيرة المصطفى).

علي أكبر قرشي في تفسيره (أحسن الحديث) و (قاموس القرآن) بالفارسية.

محمد تقي شريعتي في تفسيره (نوين) (الجديد) بالفارسية.

مكارم الشيرازي في تفسيره (الأمثل).

كاظم الحائري في كتابه (الإمامة وقيادة المجتمع).

نصرت أمين الأصفهانية في تفسيرها (مخزن العرفان) بالفارسية.

محمد مهدي شمس الدين في (محاضراته التفسيرية).

جعفر السبحاني في (مفاهيم القرآن).

محي الدين مهدي قمشه إي في (ترجمة القرآن للفارسية).

رضا سراج في (ترجمة القرآن للفارسية).

يعسوب الدين الجويبراوي في تفسيره الكبير (البصائر)". ([8])

ثالثًاً: ادعى بعض علماء الرافضة، أن المقصود بها رجل من بني أمية، وبعضهم يقول أنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، استنادًا إلى رواية وردت عندهم تشير إلى هذا المعنى.

يقول جعفر السبحاني: "الظاهر هو أن الصحيح ما جاء عن الإمام الصادق «عليه السلام»: أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجاءه ابن أم مكتوم. فلما جاءه تقذر منه، وعبس في وجهه، وجمع نفسه، وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك عنه، وأنكره عليه".([9])

وهذه الرواية التي أشار إليها السبحاني، باطلة، بيّن ضعفها كثير من علماء الرافضة، وبينوا مخالفتها لظاهر وصريح القرآن الكريم.

قال محسن الأمين: "أما ما روي عن الصادق (ع) فقد ينافي صحة هذه الرواية قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ} [سورة عبس:3]، فإن ذلك الرجل إنما عبس في وجه الأعمى تقذرا له، لا لأنه لا يرجو تزكيه أو تذكرة، فالمناسب أن يقال: وما يدريك لعله خير من أهل النظافة والبصر، وكذا قوله: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ} [سورة عبس:7]. فإن تصدى الأموي للغني لغناه لا لرجاء أن يزكى، وكذا قوله {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} [سورة عبس:8-10]. فإن ابن أم مكتوم انما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا الأموي، والأموي إنما تقذره، وانكمش منه، لا إنه تلهى عنه، فالمناسب أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك يبطل صدور هذه الرواية من معدن بيت الوحي".([10])

رابعًا: اعترف علماء الرافضة، حتى القائلون بأنها في غيره وليست في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنها لا منافاة بينها وبين أخلاقه العظيمة، ولا فيها مطعن فيه.

قال الكاشاني: "فإن قيل: فلو صحّ الخبر الأوّل هل يكون العبوس ذنبًا أم لا؟ فالجواب: أنّ العبوس والانبساط مع الأعمى سواء؛ إذ لا يشقّ عليه ذلك، فلا يكون ذنبًا. فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيّه؛ ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبّهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد، ويعرّفه أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في إيمانه".([11])

وقال المجلسي: "بعد تسليم نزولها فيه صلى الله عليه وآله كان العتاب على ترك الأولى، أو المقصود منه إيذاء الكفار وقطع أطماعهم عن موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وذمهم على تحقير المؤمنين كما مر مرارًا".([12])

وقال محسن الأمين: "أقول: لا مانع من وقوع العتاب منه تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم على ترك الأولى. وفعل المكروه أو خلاف الأولى لا ينافي العصمة، والقول بأن العبوس ليس من صفاته صلى الله عليه وسلم، إنما يتم إذا لم يكن العبوس لأمر أخروي مهم، وهو قطع الحديث مع عظماء قريش الذين يرجو إسلامهم، وأن يكون بإسلامهم تأييد عظيم للدين، وكذلك القول بأن الوصف بالتصدي للأغنياء والتلهي عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة، إنما يتم إذا كان تصديه للأغنياء لغناهم لا إرجاء إسلامهم وتلهية عن الفقراء لفقرهم لا لقطعهم حديثه مع من يرجو إسلامه، ومع ذلك لا ينافي العتاب له، وكون الأولى خلافه".([13])

ونقل كلامَ العاملي هاشمُ معروف الحسني مقرًا به، وموافقًا له، فقال: "والذي أراه ان ما ذكره السيد الأمين مقبول ومعقول ولا يتنافى مع مقام النبي ولا مع عصمته، كما ذكره السيد (رحمه اللّه)، ولكنه ليس متعينًا منها لجواز أن تكون الآيات الأولى من السورة واردة في مقام إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم  إلى واقع تلك الفئة الضالة التي لا يرجى صلاحها، ولا موجب لعتابه فيما فعله مع الأعمى، ذلك لأن النبي كان يتحدث مع أولئك الطغاة ظنًّا منه أن الحديث معهم يخدم مصلحة الاسلام إما بإسلامهم، أو سكوتهم على أقل التقادير، فانصرافه إليهم عن سواهم في ذلك الظرف الذي كان الاسلام فيه في أمس الحاجة إلى الأنصار والاتباع كانت تفرضه المصلحة التي هي أرجح من تعليم الأعمى وتفقيهه في أمور الدين لإمكان أن يتم ذلك في وقت آخر حسب تقدير النبي صلى الله عليه وسلم"([14]).

والحمد الله رب العالمين

وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

[1]-  المستدرك على الصحيحين- الحاكم النيسابوري- (2/ 558).

[2]-  مسند أبي يعلى الموصلي- (5/ 431).

[3]-  الاستيعاب في بيان الأسباب- سليم بن عيد الهيلالي- (3/ 496).

[4]-  لقاء الباب المفتوح- ابن عثيمين- (18/ 4)، (ترقيم مكتبة الفقاهة).

[5]-  تفسير جوامع الجامع- الطبرسي- (3/ 728).

[6]-  التفسير الكاشف- محمد جواد مغنية- (7/ 515-516).

[7]-  الخليل بن أحمد الفراهيدي من علماء أهل السنة، وليس من علماء الشيعة الروافض!!

[8]- تعليقات ومناظرات بين السيد محمد حسين فضل الله والشيخ جواد التبريزي- (ص 28- 29).

[9]-  الصحيح من سيرة النبي الأعظم -صلى الله عليه وسلم - جعفر مرتضى العاملي- (3/ 290).

[10]-  أعيان الشيعة- محسن الأمين- (1/ 230).

[11]-  زبدة التّفاسير- فتح الله الكاشاني- (7/ 335).

[12]- بحار الأنوار - العلامة المجلسي – (17 /78).

[13]- أعيان الشيعة- محسن الأمين- (1/ 229-230).

[14]-  سيرة المصطفى نظرة جديدة- هاشم معروف الحسني- (ص 193).


لتحميل الملف pdf

تعليقات