زعمت الشيعة أن طلحة كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة، فهي بنتُ عمي، فبلغ رسول الله قوله، فتأذى من ذلك» فنزل قول الله تعالى: [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا] {الأحزاب:53}.
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: ضعف الأثر.
رُوِيَ هذا الحديثُ من ثلاثة طرق عن ابن عباس رضي الله عنه، ولا يصح طريق منها، وروي كذلك عن بعض التابعين، وليس فيه حجة، وإليك بيان ذلك:
الطرق التي عن ابن عباس:
الطريق الأول: طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه.
أخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمد بن حميد الرازي قال: «ثنا مِهْران ابن أبي عمر، ثنا سفيان الثوري، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رجل من أصحاب النبي : لو قد مات رسول الله لتزوجت عائشة، أو أم سلمة، فأنزل الله : [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا {الأحزاب:53}»([1]).
وهذا السند ضعيفٌ، وفيه علتان:
العلة الأولى: مهران بن أبي عمر ضَعَّفَهُ غير واحد، قال النسائي: «ليس بالقوي، غير أنه مضطرب في حديثه عن سفيان خاصة»، قال ابن معين: «كان عنده غلط كثير في حديث سفيان»([2]) وهذا الحديث يرويه عن سفيان.
العلة الثانية: محمد بن حميد الرازي. فهو واهٍ ومتهَّم.
قال البخاري: «فيه نظر»، وقال النسائي: «ليس بثقة»، وقال يعقوب بن شيبة: «كثير المناكير»([3])، وقال الذهبي: «منكر الحديث»([4])، وقال ابن رجب: «محمد بن حميد، كثير المناكير، وقد اتُهم بالكذب، فلا يُلتفت إلى تفرده بما يخالف الثقات»([5])، وقال ابن حبان: «كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات، ولا سيما إذا حدث عن شيوخ بلده»([6]).
الطريق الثاني: طريق أبي صالح عن ابن عباس ب
أخرجه ابن بشكوال من طريق محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: «فلما ضرب عليهن الحجاب قال رجل من قريش -وهو طلحة بن عبد الله([7])-: أننهَى أن ندخل على بنات عمنا ونكلمهن إلا من وراء حجاب؟! أما والله لو قد مات النبي لأَتَزَوجن عائشة؛ فنزلت هذه الآية: [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا] {الأحزاب:53}»([8]).
موضوع، فيه كذابان:
الأول: محمد بن السائب الكلبي، قال الثوري: «قال الكلبي: كل شيء أحدث عن أبي صالح فهو كذب»([9])، وقال أبو حاتم: «الناس مجتمعون على ترك حديثه، لا يُشتغل به، هو ذاهب الحديث»([10]).
ثم هو ضال زائغ؛ حيث يقول ابن حبان: «وكان الكلبي سَبَئِيًّا، من أصحاب عبد الله بن سبأ، من أولئك الذين يقولون: إن عليًّا لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة فيملؤها عدلًا كما ملئت جورًا، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها»([11]).
الثاني: محمد بن مروان السُّدِّيُّ الصغير، كذاب متروك، قال فيه جرير بن عبد الحميد: «كذاب». وقال يحيى بن معين: «ليس ثقة». وقال محمد بن عبد الله بن نمير: «ليس بشيء»، وقال صالح بن محمد البغدادي الحافظ: «كان ضعيفًا، وكان يضع الحديث»، وقال أبو حاتم: «ذاهب الحديث، متروك الحديث، لا يكتب حديثه البتةَ»، وقال البخاري: «لا يُكْتَبُ حديثُه البتة». وقال النسائي: «متروك الحديث».
وقال في موضع آخر: «ليس بثقة، ولا يُكتب حديثُه»([12])، وقال ابن حبان: «كان ممن يرْوِي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة الاعتبار، لا الاحتجاج به بحال من الأحوال»([13]).
الطريق الثالث: من رواية جويبر بن سعيد
عزاه السيوطي إلى جويبر بن سعيد في تفسيره، فقال في «لباب المنقول»([14]): «وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلًا أتى بعض أزواج النبي ق فكلمها، وهو ابن عمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا»، فقال: يا رسول الله، إنها ابنة عمي، والله ما قلت لها منكرًا، ولا قالت لي، فقال النبي ق: «قد عرفت ذلك؛ إنه ليس أحد أغير من الله، وإنه ليس أحد أغير مني» فمضى، ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي؟ لأتزوجنها من بعدُ، فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عباس: فأعتق ذلك الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشيًا؛ توبة من كلمته».
هكذا عزَاه السيوطي إلى تفسير جويبر بن سعيد، ولم يذكر له إسنادًا، ويكفي أنه مِن روايَة جويبر بن سعيد، فهو متروك الحديث، ضعفه علي بن المديني جدًّا، وقال ابن معين: «ليس بشيء»، وتركه النسائي والدارقطني([15]).
أما من ذُكِرَ عنهم من التابعين ومن بعدهم، فمنهم:
أبو أمامة أسعد بن سهل بن حنيف: أدرك النبيَ ق ولم يسمع منه إجماعًا، قال اين سعد: «أخبرنا محمد بن عمر، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن إبراهيم بن عقبة قال: وحدثني عبد السلام بن موسى بن جبير، عن أبيه، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال في قوله: [ إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ ] {الأحزاب:54} قال: إن تكلموا به فتقولوا: نتزوج فلانة، لبعض أزواج النبي ق، أو تخفوا ذلك في أنفسكم، فلا تنطقوا به يعلمه الله»([16]).
وهذا مع كونه ليس بحجة إلا أنه أيضًا لا يصح إسناده؛ إذ إنه من طريق الواقدي محمد بن عمر شيخ ابن سعد، وهو متروك، تركه البخاري ومسلم، وكذبه أحمد وغيره ([17]).
أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: وهو من طبقة صغار التابعين، وقد رواه عنه ابن سعد في «الطبقات» قال: «أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في قوله: [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ {الأحزاب:53}.
قال: «نزلت في طلحة بن عبيد الله؛ لأنه قال: إذا توفي رسول الله تزوجت عائشة»([18]).
وهو كسابقه أيضًا ليس بحجةٍ؛ إذ إنه قولٌ لتابعي، ومع ذلك لا يصح لأجل الواقدي كما تقدم.
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وهو من صغار التابعين، وقد رواه عنه الطبري فقال: «حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا] {الأحزاب:53}.
قال: «ربما بلغ النبي ق أن الرجل يقول: لو أن النبي توفي تزوجت فلانة من بعده، قال: فكان ذلك يؤذي النبي ق»([19]).
وهذا لا حجة فيه أيضًا؛ لإرساله من جهة عبد الرحمن على ضعفه في الحديث كذلك، وضعفه أحمد، وعلي بن المديني، وأبو زرعة، والنسائي، والدارقطني، وقال ابن معين: «ليس بشيء»([20]).
قتادة: رواه عنه عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، أن رجلًا قال: «لو قبض النبي ق لتزوجت فلانة، يعني عائشة، فأنزل الله تعالى: [ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا] {الأحزاب:53}»([21]).
وهذا منقطع؛ إذ إن قتادة جُلُّ روايته عن كبار التابعين، وغاية ما هنالك أن يكون هذا قوله، وحينئذٍ لا حجة فيه.
ولذلك قال ابن عطية: «وهذا عندي لا يصح على طلحة، الله عاصِمُه منه»([22]).
ثانيًا: القائل ليس هو طلحة أحد العشرة المبشرين بالجنة.
نفَى جمعٌ من أهل العلم أن يكون القائل هو طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة، وإنما هو طلحة بن عبيد الله بن مُسَافع بن عياض.
وممن ذكر ذلك:
ابن الأثير: فقال في ترجمته: «سمي طلحة الخير أيضًا، كما سمي طلحة ابن عبيد الله، الذي من العشرة، وأشكل على الناس وقيل: إنه الذي نزل في أمره: [ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا ] {الأحزاب:53} وذلك أنه قال: لئن مات رسول الله ق لأتزوجن عائشة، فغلط لذلك جماعة من أهل التفسير، فظنوا أنه طلحة بن عبيد الله الذي من العشرة، لما رأوه طلحة بن عبيد الله التيمي القرشي، وهو صحابي»([23]).
وقال السيوطي: «وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر؛ لأن طلحةَ أحدَ العشرة أجلُّ مقامًا من أن يصدر منه ذلك، حتى رأيت بعد ذلك أنه رجل آخر شاركه في اسمه واسم أبيه ونسبه؛ فإن طلحة المشهور الذي هو أحد العشرة: (طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم التيمي)، وطلحة صاحب القصة: (طلحة بن عبيد الله بن مُسافع بن عياض بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم التيمي) قال أبو موسى في الذيل عن ابن شاهين في ترجمته: هو الذي نزل فيه: [ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ] {الأحزاب:53}، وذلك أنه قال: لئن مات رسول الله ق لأتزوجن عائشة، وقال: إن جماعة من المفسرين غلطوا، وظنوا أنه طلحة أحد العشرة»([24]).
والصحيح: أنه لا يصح ذلك، لا في طلحة بن عبيد الله، ولا في غيره من الصحابة الكرام ي، وهذا القول بأشبه بقول المنافقين الذين آذوا رسول الله ، وهذا ما ذهب إليه القرطبي في «المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم»؛ حيث قال: «وقوله: [ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا] {الأحزاب:53} أي: ما ينبغي ولا يحل ولا يجوز شيء من ذلك بوجه من الوجوه.
ويقال: إن هذه الآية نزلت لما قال بعضهم وقد تكلم مع زوجة من زوجات النبي ق: لأتزوجن بها بعده؛ فأنزل الله الآية.
وقد حُكِيَ هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال»([25]).
([1]) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، كما في تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر (3/128)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/96) من طريق محمد بن حميد الرازي.
([2]) الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم (8/301)، والإسناد الذي معنا من حديثه عن سفيان.
([3]) التاريخ الكبير (1/69)، الأباطيل والمناكير (2/190)، تاريخ بغداد (3/60).
([4]) سير أعلام النبلاء (11/503).
([5]) فتح الباري (5/70)، المجروحين (2/303).
([6]) التقريب، ابن حجر (5834).
([7]) كذا في غوامض الأسماء المبهمة، والصواب: ابن عبيد الله، كما في المصادر الأخرى.
([8]) أخرجه ابن بشكوال في غوامض الأسماء المبهمة (2/711) من طريق مُحَمَّدِ بْن مَرْوَان عَن الْكَلْبِيِّ.
([9]) الكامل، ابن عدي (7/276).
([10]) الجرح والتعديل (7/271).
([11]) المجروحين (2/253).
([12]) انظر: الجرح والتعديل (8/86)، وتهذيب الكمال (26/393).
([13]) المجروحين (2/286).
([14]) لباب النقول (ص163).
([15]) انظر: تاريخ بغداد (8/180)، وتركه النسائي كما في الضعفاء والمتروكين (ص104)، وكذا الدارقطني كما في الضعفاء والمتروكين (ص147).
([16]) أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/201).
([17]) انظر: تهذيب الكمال (26/188).
([18]) الطبقات (8/201).
([19]) تفسير الطبري (19/170).
([20]) تهذيب الكمال (17/117).
([21]) تفسير عبد الرزاق (2372).
([22]) تفسير ابن عطية (4/396).
([23]) أُسْد الغابة (3/88).
([24]) الحاوي في الفتاوي، السيوطي (2/116).
([25]) المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (4/150).
لتحميل الملف pdf