قال الشيعي: «فما معنى (الحميراء) إذًا؟ إن خير ما يمكن به استكشاف معنى أي لفظة هو مراجعة موارد ونظائر استعمالها بعينها في كلام العرب، وهكذا يتجلى المعنى وينكشف ما وراء الستار!
قال الأزهري وابن منظور: وحكى الأصمعي عن بعض العرب أنه قال: الحمى في أصول النخل، وشر الغبيات غبيَّة النبل، وشر النساء السويداء الْمِمْراض، وشرُّ منها الحميراءُ الْمِحيَاض.
وقال أبو حيان التوحيدي والزمخشري: العربُ تقول: شر النساء الحميراءُ المحياض، والسويداء الممراض.
وذكر القالي عن الزبيري: أتى رجل ابنة الخِس يستشيرها في امرأة يتزوجها، فقالت: انظر رمكاء جسيمة، أو بيضاء وسيمة، في بيت جد، أو بيت حد، أو بيت عز. قال: ما تركتِ من النساء شيئًا! قالت: بلى؛ شر النساء تركت السويداءُ الممراض، والحميراءُ المحياض، الكثيرة المظَالِظ.
(الحميراء) إذًا هي (المحياض) أي التي تحيض كثيرًا فيحمرُّ بدنها ولا تنفك الدماء الحمراء عنها، وهي عند العرب (شر النساء على الإطلاق) فهي شر من السويداء الممراض، أي: التي تمرض كثيرًا، فيؤثر ذلك في اسوداد بدنها، وهذا هو المعنى الحقيقي للحميراء عند العرب، فلا علاقة له بالبياض والحسن والجمال.
وهذا الاستعمال الذي وجدناه في أمثال العرب وأقوالهم حجة بينة، فيما لا نجد حجة مثلها للذين زعموا أن الحميراء هي البيضاء المشربة حمرة؛ إذ لم يذكروا حتى مثالًا واحدًا لامرأة أطلق عليها هذا الوصف سوى عائشة، مع أن النساء البيضاوات المشربات بحمرة كثيرات قبل أن تُولد عائشة وبعدما قبرت، الأمر الذي يعني أنهم إنما ابتدعوا هذا المعنى لهذه اللفظة فرارًا من حراجة الموقف وإنقاذًا لسمعة أمهم عائشة، وكأنهم خاطروا هذا المعنى لتلبسه عائشة حصرًا»([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: لا يصف العفيف امرأته إلا لضرورة ملجئة.
الأصل أن الرجل لا يصف زوجته للناس إلا عند ضرورة ملجِئة.
قال ابن حزم: «فوصف الرجل امْرَأَتَه للرِّجَال لَا يرضَى بِهِ إِلَّا خسيسٌ نذلٌ سَاقِطٌ، وَلَا يحلُّ لمن لَهُ أدنى مسكَةٍ من عقل أَن يمر هَذَا فِي باله عَن فَاضل من الناس، فَكيف عَن الْمُقَدَّس المطهر الْبَائِن فَضله على جَمِيع الناس»([2]).
ولا نجِدُ وصفًا من النبي لزوجته أم المؤمنين عائشة من جهة جمال الوجه ولونه، وأما ما ورد عنه أنه وصف كفَّها ل بالبياض في رواية الإمام أحمد([3]) ففي سنده ضعف.
ولم أرَ رواية واحدة صحت في وصف النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها، وهذا هو اللائق بخُلقه .
ثانيًا: النزاع في ثبوت لفظة الحميراء:
أما لفظة «الحميراء» فقد تنازع أهل العلم في ثبوتها.
قال ابن القيم: «وَكُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ «يَا حُمَيْرَاءُ» أو ذكر «الحميراء» فهو كذب مختلق»([4]).
وقال الذهبي في السير: «وَقَدْ قِيلَ: إِن كُلَّ حَدِيثٍ فِيهِ: يَا حُمَيْرَاءُ، لَمْ يَصِحَّ»([5]).
قال الزركشي: «وذكر لي شيخنا ابن كثير، عن شيخه أبي الحجاج الْمِزِّيِّ أنه كان يقول: كل حديث فيه ذكر الحميراء باطل، إلا حديثًا في الصوم في سنن النسائي»([6]).
وذكرَ بعض العلماء صحة حديثين، وبعد التتبع وجدنا أن أقوَى هذه الأحاديث هو حديث أم المؤمنين عائشة في نظرها إلى الحبشان وهم يلعبون في المسجد.
فعنها أنها قالت: «دخل الحبشةُ المسجدَ يلعبون، فقال لي: «يا حميراء، أتحبين أن تنظري إليهم؟» فقلت: نعم، فقام بالباب وجئته فوضعت ذقني على عاتقه، فأسندت وجهي إلى خده، قالت: ومن قولهم يومئذ أبا القاسم طيبًا، فقال رسول الله : «حسبك»، فقلت: يا رسول الله، لا تعجل، فقام لي، ثم قال: «حسبك»، فقلت: لا تعجل يا رسول الله، قالت: وما لي حب النظر إليهم، ولكني أحببْتُ أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه»([7]).
قال ابن حجر: «إسناده صحيح، ولم أَرَ في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا»([8]).
قلت: وقد روي هذا الحديث دون لفظة «الحميراء» من طرق كثيرة، ولم ترد هذه اللفظة إلا من طريق «محمد بن إبراهيم التيمي» ولعله غلط فيها، أو من هو دونه في الإسناد.
ثالثًا: معنى الحميراء في لغة أهل الحجاز: المرأةُ البيضاء.
قال مرتضى الزبيدي: «في حَدِيثٍ آخَر: «خُذُوا شَطْر دِينكم مِن الحُمَيْرَاءِ» يَعْني: عائِشَة، كان يَقُولُ لهَا أَحْيَانا ذَلك، وهو تَصْغِير الحَمْرَاءِ، يُرِيد البَيْضَاءَ»([9]).
قال الذهبي: «وَالحَمْرَاءُ فِي خِطَابِ أَهْلِ الحِجَازِ: هِيَ البَيْضَاءُ بِشُقْرَةٍ، وَهَذَا نادِرٌ فِيهِم»([10]).
قال النووي: «قال المتكلمون على هذا الحديث من الطوائف: المراد بالحميراء هنا: البيضاء، قال أهل اللغة: تقول العرب لشديد البياض: أحمر، ومنه الحديث عن رسول الله : «بعثت إلى الأسود والأحمر» والمراد بالأحمر: العجم، وهم بيض، وقيل: المراد بهم الجن، والتصغير في الحميراء هنا تصغير تحبيب، كقولهم: يا بُني ويا أُخَي»([11]).
رابعًا: استعملت العرب لفظة الحميراء في المدح.
إن صفة «حميراء» -كما رأينا- صفة مدحٍ للمرأة، وهو ما عناه رسول الله في حقّ عائشة، كما عناه العرب في وصف المرأة، وهو عُرْفٌ تعبيريٌّ جماليٌّ، يعرفه مَن له أدنى إِلْمَامٍ بكلام العرب.
قال ابن عساكر: «عن قسيمة بنت عياض الأسلمية، عن ابنة وهي أم البنين ابنة عياض بن الحسن الأسلمية قالت: سارت علينا عزة في جماعة من قومها، فنزلت على بئر ابن يربوع والجهنية، فسمعنا بها، فاجتمعت جماعة من نساء الحاضر أنا فيهن، فجئناها فرأينا امرأةً حميراءَ حلوةً لطيفةً، فتضاءلنا لها ومعنا نسوة كلهن لهن الفضل عليها في الجمال والخلق، إلى أن تحدثت عزة فإذا هي أبدعُ الخلق وأحلاه حديثًا، فما فارقناها إلا ولها الفضل في أعيننا، وما نرى أن امرأة تفوقها حسنا وجمالًا وحلاوةً»([12]).
فانظر كيف مدحت هذِه المرأة بكونها حميراء، إشارةً إلى جمال لون بشرتها.
خامسًا: اعتراف علماء الشيعة بهذا المعنى
وهذا المعنى الذي ذكرناه ورد أيضًا في كتب الرافضة.
قال التبريزي: «وإطلاق حميراء على عائشة لكونها بيضاء، والعرب تقول للبيضاء: حمراء، كما ذكر السيد أحمد العاصم، ويجوز كون اللفظ على أصل معناه، أو كناية عن مطلق الحسناء»([13]).
وقال محقق كتاب شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار للنعمان: «حميراء: كان الرسول يسميها تصغير الحمراء: يريد البيضاء»([14]).
سادسًا: على فرض صحة ما ذكره الرافضي، فهو طعن في شرف النبي صلى الله عليه وسلم
فلو كان المعنى هو ما ذهب إليه الرافضي ومَن وافقه، فأيُّ رجل شريف يسبُّ زوجته أصلًا؟ ناهيك عن أن يكون ذلك الرجل عربيًّا عاقلًا، ونبيًّا وصفه ربُّه بأنه على خُلُقٍ عظيم؛ أفذلك هو الخُلُق العظيم؟!
ولقد شَهِدَتْ سيرتُه ق قبل الإسلام وبعده بأنه كان رجلًا شريفًا نبيلًا، بريئًا من ثقافةِ اللعن والسباب وسوء الألفاظ والفعال، تلك الخصال التي لا يتَّصف بمثلها إلَّا الناقص الحائر في أمره، وأنه كان على ذلك الخلق القويم حتى مع ألدّ أعدائه، فكيف مع أزواجه؟!
اقرأ أيضا| الطعن في محبة النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة
([1]) الفاحشة، ياسر الحبيب (ص238 -240).
([2]) الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم (4/99 - 100).
([3]) عَن مُصْعَبِ بْن إِسْحَاقَ بن طَلْحَةَ، عَن عَائِشَةَ، عَن النبِيِّ ، قَالَ: «إِنهُ لَيُهَوِّن عَلَيَّ أَني رَأَيْتُ بَيَاضَ كَفِّ عَائِشَةَ فِي الْجَنةِ». مسند أحمد (41/519) (ح25076) ط الرسالة.
قال المحقق: «إسناده ضعيف؛ لجهالة مصعب بن إسحاق بن طلحة، وهو من رجال «التعجيل»، تفرَّد بالرواية عنه إسماعيل بن أبي خالد، ولم يُؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، وقد اختلف فيه على إسماعيل...».
([4]) المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ابن قيم الجوزية (ص60).
([5]) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (2/167).
([6]) المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر (2/19)، و(1/20).
([7]) السنن الكبرى، النسائي (8951)، مشكل الآثار، الطحاوي (1/154).
([8]) فتح الباري (2/444).
([9]) تاج العروس من جواهر القاموس، المرتضى الزبيدي (6/301).
([10]) سير أعلام النبلاء، الذهبي (3/447).
([11]) تهذيب الأسماء واللغات، النووي (3/71).
([12]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (69/280).
([13]) اللمعة البيضاء، التبريزي الأنصاري (ص201).
([14]) شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار، القاضي النعمان المغربي (1/400).
لتحميل الملف pdf