الشبهة الثانية عشر
قولهم أنَّ عائشة رضي الله عنها ابتلاء للأمة
محتوى الشبهة:
قال الشيعة: إن الحكمة من زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين عائشة أنها مجرد ابتلاء للأمة.
واستدلوا على ذلك:
بما رواه البخاري من حديث أبي مَرْيَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ الأَسَدِيُّ، قَالَ: "لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إِلَى البَصْرَةِ، بَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، فَقَدِمَا عَلَيْنَا الكُوفَةَ، فَصَعِدَا المِنْبَرَ، فَكَانَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَوْقَ المِنْبَرِ فِي أَعْلاَهُ، وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنَ الحَسَنِ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ، فَسَمِعْتُ عَمَّارًا، يَقُولُ: «إِنَّ عَائِشَةَ قَدْ سَارَتْ إِلَى البَصْرَةِ، وَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلاَكُمْ؛ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِي"([1]).
يقول عبد الصمد شاكر: "أقول: جعل عمار متابعة عائشة في حرب الجمل في مقابل متابعة المسلمين لله"([2]).
وقال أحد الشيعة: "والمستفاد مما ذكره عمار هو أن عائشة جعلت من قبل الله تعالى ابتلاء، وامتحانًا للأمة، فمن يطيع الله تعالى ويعصيها نجى وفاز بالجنة، ومن يطيعها ويعصيه هلك وهوى في النار! وذلك قول عمار: "لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِي؟"([3]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: لا يمكن عند كل عاقل أن يزوج الله نبيه من امرأة ويشرفها بلقب عظيم "أم المؤمنين"، ويوجب تعظيمها وإكبارها واحترامها، وفي نفس الوقت تكون الحكمة الوحيدة أنها ابتلاء للأمة؟! هذا أقرب إلى التلبيس على الأمة منه إلى الحكمة والبيان، وكيف يقبل عقل عاقل أن يأخذ كلمة من صحابي غير معصوم بل مرتد عند الرافضة؛ ثم يجعل الهدف الوحيد من زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها هو اختبار الأمة بها في موقف حدث بعد موت النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بخمس وعشرين سنة؟!
فأين كانت هذه الحكمة طوال الفترة السابقة؟! وأين بيّن النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أنه تزوج عائشة ليختبر بها الناس؟!
هذا مثله كمثل من يقول إن الله زوج علي من فاطمة لتطالب بفدك عندما يَضعف علي بن أبي طالب عن المطالبة بها؛ وهذه هي الحكمة الوحيدة من زواج علي من فاطمة؟! هذا أقرب إلى الجنون منه إلى العقل!
ثانيًا: مجرد قول عمار للمسلمين: "واللهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلاَكُمْ؛ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ، أَمْ هِيَ"، يبطل مراد الشيعة، وذلك أن عمار كان يعلم أن مقتضى الأمومة التي فهمها كل عربي، إنما هي الإجلال والتعظيم والتشريف والإكبار، والنفوس مجبولة على طاعة من هذا حاله، وتأويل كل قول خالف قوله، فلما علم عمار ذلك قال لهم: أنا أقر لكم فهمكم من كونها أمكم التي يجب عليكم تعظيمها وتوقيرها وإكبارها، ولكن الطاعة لغير المعصوم، إنما تكون في المعروف، وفيما دل عليه الدليل.
ولذلك قال ابن القيم في كتابه القيم (الصواعق المرسلة) وهو في سياق ذكره للأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله، قال: "السبب الثالث: أن يعزو المتأول تأويله وبدعته إلى جليل القدر نبيه الذكر من العقلاء أو من آل البيت النبوي أو من حل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق ليحليه بذلك في قلوب الأغمار والجهال فإن من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه وكلما كان ذلك القائل أعظم في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتم حتى إنهم ليقدمونه على كلام الله ورسوله ويقولون هو أعلم بالله ورسوله منا وبهذه الطريق توصل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم فانتموا إليهم وأظهروا من محبتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم واللهج بذكرهم وذكر مناقبهم ما خيل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأولى الناس بهم ثم نفقوا باطلهم وإفكهم بنسبته إليهم، فلا إله إلا الله كم من زندقة وإلحاد وبدعة وضلالة قد نفقت في الوجود بنسبتها إليهم وهم براء منها براءة الأنبياء من التهجم والتعطيل وبراءة المسيح من عبادة الصليب والتثليث وبراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من البدع والضلالات.
وإذا تأملت هذا السبب رأيته هو الغالب على أكثر النفوس وليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل بلا برهان من الله ولا حجة قادتهم إلى ذلك وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دين الرسل بما كان عليه الآباء والأسلاف فإنهم لحسن ظنهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما كانوا عليه على ما جاءتهم به الرسل وكانوا أعظم في صدورهم من أن يخالفوهم ويشهدوا عليهم بالكفر والضلال وإنهم كانوا على الباطل وهذا شأن كل مقلد لمن يعظمه فيما خالف فيه الحق إلى يوم القيامة"([4]).
ولأجل ذلك خاف عمار من انصراف الناس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لهذا السبب.
وقد خفي الحق بسبب ذلك على الكثير، ومن الأدلة على ذلك من كتب الشيعة ما ذكروه عن الحسن البصري -رحمه الله- والذي قال عنه (بحر العلوم): "إنه كان صاحب مذهب من المذاهب المشهورة التي عليها مدار الإسلام"([5]).
ومع ذلك فقد كان لا يشك أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر، ولم يعرف أن الحق مع علي إلا بمعجزة -بزعمهم-وهذا يثبت أن الأمر كان فتنه واجتهاد ولذلك خفي الحق فيه على كثيرين ([6]).
ففي (الاحتجاج): "فقال الحسن البصري: "والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين، لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت علي سلاحي، وأنا لا أشك في أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة ناداني مناد: "يا حسن إلى أين أرجع فإن القاتل والمقتول في النار"، فرجعت ذعرًا وجلست في بيتي، فلما كان في اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر، فتحنطت، وصببت علي سلاحي وخرجت أريد القتال، حتى أنهيت إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي: "يا حسن إلى أين مرة بعد أخرى، فإن القاتل والمقتول في النار"، قال علي عليه السلام: صدقك".
وبغض النظر عن كذب هذه الرواية، إلا أننا أتينا بها لنُفهِم المتعصب العنيد حقيقة الفتنة، ولماذا قال عمار ذلك.
ومن أسباب قول عمار ذلك أيضًا -كما هو الظاهر- هو اختلاف أصحاب عثمان بن حنيف -والي علي على البصرة- عليه وانقسامهم لفريقين، فأراد أن يبين لهم أن فريق علي لا تثريب عليه إن قاتل من وعدها الله بالجنة، فليس من شرط أهل الجنة أن يكونوا معصومين.
قال الشيخ محب الدين الخطيب في حاشية كتاب (العواصم من القواصم): "الذين كانوا في الميسرة كانوا يقولون تعليقًا على خطبتي طلحة والزبير: فجرًا وغدرًا، وقالا الباطل، وأمرا به. قد بايعا، ثم جاءا يقولان ما يقولان، والذين كانوا في الميمنة يقولون: صدقًا، وبراً، وقالا الحق، وأمراً بالحق، وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا. إلا أنه لما انتهت عائشة من خطبتها ثبت الذين مع أصحاب الجمل على موالاتهم لهم، وافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين، فقالت فرقة: صدقت والله وبرت وجاءت بالمعروف، وقال الآخرون: كذبتم ما نعرف ما تقولون، فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا"([7]).
ومال بعض الذين كانوا مع ابن حنيف إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان بن حنيف ([8]).
ولمزيد بيان أنقل لكم كلام العلامة المعلمي في (التنكيل) حيث قال: "أكثر الناس مغرورن بتقليد من يعظم في نفوسهم والغلو في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنه غير معصوم عن الخطأ، والدليل قائم على خلاف قوله في كذا، فدل ذلك على أنه أخطأ، ولا يحل لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه، قالوا: هو أعلم منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطأ منه، فالظاهر أنه قد عرف ما يدفع دليلكم هذا، فإن زاد المنكرون فأظهروا حسن الثناء على ذلك المتبوع كان أشد لغلو متبعيه.
خطب عمار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة، فقال: "وَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلاَكُمْ؛ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِي"([9]) أخرجه البخاري في (الصحيح) من طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار فلم يؤثر هذا في كثير من الناس بل روي أن بعضهم أجاب قائلاً "فنحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار".
فلهذا كان من أهل العلم والفضل من إذا رأى جماعة اتبعوا بعض الأفاضل في أمر يرى أنه ليس لهم فيه إما؛ لأن حالهم غير حاله، وإما لأنه يراه أخطأ - أطلق كلمات يظهر منها الغض من ذاك الفاضل لكي يكف الناس عن الغلو فيه الحامل لهم على إتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه.
فمن هذا: ما في (المستدرك) ([10]) "عن خيثمة قال: كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في نفر فذكروا عليًّا فشتموه، فقال سعد: مهلاً عن أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم. . . فقال بعضهم: فوالله إنه كان يبغضك ويسميك الأخنس، فضحك سعد حتى استعلاه الضحك، ثم قال: أليس قد يجد المرء على أخيه في الأمر يكون بينه وبينه ثم لا تبلع ذلك أمانته...» ([11]).
وفي الصحيحين وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال: «ما سمعت رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جمع أبويه إلا لسعد بن مالك (هو سعد بن أبي وقاص)، فإني سمعته يقول يوم أحد: "يا سعد ارم فداك أبي وأمي".
وتروى عن كلمات أخرى من ذا وذاك وكان سعد قد قعد عن قتال البغاة، فكان علي إذا كان في جماعة يخشى أن يتبعوا سعداً بالقعود ربما أطلق غير كاذب كلمات توهم الغض من سعد وإذا كان مع من لا يخشى منه القعود فذكر سعداً ذكر فضله، ومنه ما يقع في كلام الشافعي في بعض المسائل التي يخالف فيها مالكاً من إطلاق كلمات فيها غض من مالك مع ما عرف عن الشافعي من تبجيل أستاذه مالك، وقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال: «مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين»، كما يأتي في ترجمة مالك إن شاء الله تعالى.
ومنه ما نراه في كلام مسلم في مقدمة صحيحه مما يظهر منه الغض الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء، والمخالف هو البخاري، وقد عرف عن مسلم تبجيله للبخاري. وأنت إذا تدبرت تلك الكلمات وجدت لها مخارج مقبولة، وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد" ([12]).
فقول عمار عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها من هذا الباب، وقد حفظ لها عمار رضي الله عنه مقامها وشرفها ونافح عنها وقبَّح قول كل خبيث يتكلم في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: "فعَنْ عَمْرِو بْنِ غَالِبٍ، أَنَّ رَجُلاً نَالَ مِن عَائِشَةَ عِنْدَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فَقَالَ: اغْرُبْ مَقْبُوحًا مَنْبُوحًا، أَتُؤْذِي حَبِيبَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"([13]).
ثالثًا: إن الابتلاء الواضح في كلام عمار لكل عربي هو نفس الابتلاء في كل من لم يكن معصومًا، فلقد ابتلانا الله بكل أحد في هذه الأمة غير معصوم، وذلك أنه يكون عرضة للخطأ، فإذا كان معظما في النفوس فإنها تستعظم مخالفته، فكان هذا مما ابتلانا الله به ليعلم إياه نطيع الدليل أم نطيع هذا المعظم على غير بيّنة؟!
فمثلا إذا اختلف الشافعي مع مالك وكان الدليل الأظهر والأقوى مع الشافعي، فهنا يصح أن نقول (لقد ابتلانا الله بمالك ليعلم إياه نطيع أم إياه)؟
وإذا اختلف المفيد مع الصدوق في مسألة في العقيدة المفيد يتهم الصدوق بأخذ بعض عقائده من النصارى، ومن ذلك مثلا: ما قاله الصدوق: "عن أهل الجنة وأن منهم المتنعمون بتقديس الله وتسبيحه وتكبيره في جملة ملائكته".. ([14]). فرد عليه المفيد وبيَّن أن هذا اعتقاد النصارى ([15]).
فهنا يصح أن نقول: إن الله خلق الصدوق ليبتلي الشيعة به ليعلم إياه يطيعون أم إياه!
رابعًا: إن كلام عمار كان خاصا بتلك الواقعة فقط، وليس الأمر على عمومه كما زعموا، وإلا فلماذا لم يبين عمار أو غيره للأمة هذا الأمر قبل تلك الواقعة؟ ولماذا لم ينقل لنا التاريخ سواء كان الصحيح أو المكذوب هذا القول قبل تلك الواقعة؟!
فمن الواضح لكل أحدٍ أن عمار يقصد أن يستمر أصحاب علي معه على بيعتهم، ولا ينفَضُّوا عنه، كما هي عادة أسلاف الرافضة الذين كانوا في جيش علي بن أبي طالب، ثم إن مجرد الخروج لجمع كلمة الناس على المطالبة بقتل قتلة عثمان ليس فيه معصية لكتاب ولا لسنة، بل هو عين ما أمر الله به في كتابه من وجوب القصاص من القاتل، فلئن كان هناك من تثريب، فإنما يقع على من ترك قتلة عثمان في جيشه ولم يقتص منهم، ولكن عذر علي في ذلك معلوم، وأنه لم يكن يستطيع القصاص قبل جمع الكلمة والبيعة التامة له، وعليه فكلا الطرفين معذور في اجتهاده.
قال ابن الملقن: "وليس في الإسلام أحد يقول أن عائشة دعت إلى أمير معها، ولا عارضت عليًّا في الخلافة، ولا نازعته لأخذ الإمارة، وإنما أنكرت عليه منعه من قتلة عثمان، وتركهم دون أن يأخذ منهم حدود الله، ودون أن يقتص لعثمان منهم، لا غير ذلك"([16]).
وقال القسطلاني: "ومراد عمار بذلك أن الصواب في تلك القصة كان مع علي وأن عائشة مع ذلك لم تخرج بذلك عن الإسلام ولا أن لا تكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وكان ذلك يعد من إنصاف عمار وشدة ورعه وتحرّيه قول الحق.
وقال ابن هبيرة في هذا الحديث: إن عمارًا كان صادق اللهجة وكان لا تستخفه الخصومة إلى تنقيص خصمه فإنه شهد لعائشة بالفضل التام مع ما بينهما من الحرب"([17]).
قال ابن الملقن: "ولم يكن خروجها على نية القتال، وإنما قيل لها: اخرجي لتصلحي بين الناس فإنك أمهم ولن يعنوك بقتال، فخرجت لذلك، وكانت نية بعض أصحابها إن ثبت لهم البغي أن يقاتلوا التي تبغي"([18]).
وعليه فلا تثريب على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها في اجتهادها، ومن البديهي جدا أن يرى عمار أنه لا يجوز لأحد أن يذهب للانضمام لصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإلا لذهب هو أولاً، وهذا رأيه الغير ملزم للأمة كما سترى في خامساً.
خامسًا: أنه من المتفق عليه أن عمار بن ياسر ليس معصومًا لا عند الشيعة ولا عند أهل السنة، بل قد كان عمار من المرتدين عند الشيعة.
ففي كتاب (اختيار معرفة الرجال): "عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله ارتد الناس إلا ثلاثة أبو ذر وسلمان قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: فأين أبو ساسان وأبو عمرة الأنصاري؟ ([19])
وعن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك إلى علي عليه السلام فقالوا له: أنت والله أمير المؤمنين وأنت والله أحق الناس وأولاهم بالنبي عليه السلام هلم يدك نبايعك فوالله لنموتن قدامك! فقال عليّ عليه السلام: ان كنتم صادقين فاغدوا غداً عليَّ محلقين فحلق علي عليه السلام وحلق سلمان وحلق مقداد وحلق أبو ذر ولم يحلق غيرهم.
ثم انصرفوا فجاؤوا مرة أخرى بعد ذلك، فقالوا له أنت والله أمير المؤمنين وأنت أحق الناس وأولاهم بالنبي عليه السلام هلم يدك نبايعك فحلفوا فقال: ان كنتم صادقين فاغدوا علي محلقين فما حلق الا هؤلاء الثلاثة قلت: فما كان فيهم عمار؟ فقال: لا. قلت: فعمار من أهل الردة؟ فقال: ان عمارا قد قاتل مع علي عليه السلام بعد".
قلت: فهل أصبح عمار اليوم المشرع الأول للأمة ليبين لهم عقيدة من أهم العقائد التي اتفقت الأمة على مخالفتها بل وصريح القرآن يعارضها؟!
وليس عمار بمعصوم وأنتم تقولون أنَّه حاد عن علي، وحاص كما تزعمون؟! فإذا كانت الردة على عمار جائزة؛ جاز عليه الخطأ في قوله هذا من باب أولى.
سادسًا: أن هذه الرواية أثبتت فضيلة كبيرة لأم المؤمنين، فأي فضل أعظم من أن تكون أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة؟!
عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكَرَ فاطمة رضي الله عنها، قالتْ: فتكلَّمتُ أنا، فقال: "أما تَرضين أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة؟ قلتُ: بلَى والله، قال: فأنتِ زوجتي في الدنيا والآخرة"([20]).
قال المباركفوري: "وروى بن حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: "أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي زَوْجَتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" انْتَهَى.
وَقَالَ الْحَافِظُ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا: فَلَعَلَّ عَمَّارًا كَانَ سمع هذا الحديث من النبي"([21]).
فقول عمار: "إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة"، سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مجال للرأي في الإخبار بالغيبيات كما هو معلوم.
وقد ورد في كتب الرافضة أن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا؛ ولذلك حرم الله تعالى على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجن بعده.
قال الطبرسي: "(إن تبدوا شيئا أو تخفوه) أي: تظهروا شيئاً، أو تضمروه مما نهيتم عنه من تزويجهن (فإن الله كان بكل شيء عليما) من الظواهر والسرائر، وهذا تهديد. وروي عن حذيفة أنه قال لامرأته: إن تريدي أن تكوني زوجتي في الجنة، فلا تتزوجي بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها؛ فلذلك حرم الله تعالى على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجن بعده"([22]).
وعند البيهقي من حديث "حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ شِئْتِ أَنْ تَكُونِي زَوْجَتِي فِي الْجَنَّةِ، فَلَا تَزَوَّجِي بَعْدِي، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْجَنَّةِ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا فِي الدُّنْيَا، فَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْكَحْنَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الْجَنَّةِ" ([23]).
فرغم أنف المعاند هي زوجة نبينا في الجنة، وأقرب خلق الله إليه، وأسعد الناس بصحبته في الدنيا والآخرة.
سابعًا: إن الحكمة الكبرى من زواج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذكرها ربنا في كتابه لما قال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [اﻷحزاب: 34].
وهذا عموم يشمل كل نساء النبي صلى الله عليه وسلم الذين خوطبوا بهذه الآية، وليس لأحدٍ تخصيص هذا العموم فـ" إنَّ الْقَوْلَ الْعَامَّ إذَا قُرِنَ بِهِ الْخَاصُّ وَجَبَ أَنْ يُقْرَنَ بِهِ الْبَيَانُ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ؛ لِئَلَّا يَقَعَ السَّامِعُ فِي اعْتِقَادِ الْجَهْلِ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ دَلِيلُ تَخْصِيصٍ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِالْعُمُومِ"([24]).
ولأجل ذلك فقد اعتقد المسلمون قاطبة جلالة قدر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها وأنه يجب تعظيمها واحترامها، ومن أجل هذا الفهم الذي أجمع عليه كل عربي أراد عمار أن يفرق بين مختلفين حتى تتضح الأمور للناس، فلا يخلطوا بين وجوب الاحترام والإكبار والتعظيم لشخص، وبين ترك موجب الدليل، فبيّن عمار أنه يعتقد في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها ما يعتقده الناس وأنها أم المؤمنين، وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وتعظيمها من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يعنى أنها معصومة من الخطأ، هذا كل ما يمكن أنه يفهمه العربي العاقل من كلام عمار فضلا عن المسلم الذي يعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرماته.
وقد نص علماء الرافضة على وجوب هذا التعظيم والاحترام ومنهم:
قال الطباطبائي: "وقوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} جعل تشريعي أي انهن منهم بمنزلة أمهاتهم في وجوب تعظيمهن وحرمة نكاحهن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي التصريح به في قوله: { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} ([25]).
وقال المرتضى: "والأم ههنا عائشة؛ لقول الله عز وجل : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ }، وفسر ذلك بتفسيرين: أحدهما: أنه تعالى أراد أنهن يحرمن علينا كتحريم الأمهات، والآخر أنه يجب علينا من تعظيمهن وتوقيرهن مثلما يجب علينا في أمهاتنا. ويجوز أن يراد الأمران معا فلا تنافي بينهما"([26]).
وقال المحقق الكركي: "قد جعلت أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم أمهات المؤمنين، سواء فيه من ماتت تحت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي تحته، لعموم الآية، وليست الأمومة هنا حقيقة، بل المراد تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن"([27]).
وقال العلامة الحلي: "لقوله (ع) زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة والجنة محرمة على الكافرين؛ ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة، والله تعالى أكرم زوجاته؛ إذ جعلهن أمهات المؤمنين، والكافرة لا تصلح لذلك؛ لأن هذه أمومة الكرامة، ولقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "كل سبب ونسب ينقطع يوم القيمة إلا سببي ونسبي"، وذلك لا يصح في الكافرة ... فإنه (ع) مات عن تسع... وليست الأمومة هنا الحقيقية، بل المراد تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن"([28]).
ثامنًا: تخطئة عمار لموقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها ليس معناه أنها مأزوة، بل هي مأجورة بفضل الله تعالى، وهذا نص قول عمار لما أثبت أنها زوجة النبي في الدنيا والآخرة، ومن المستحيل أن يثبت عمار ذلك مع اعتقاده أنها مأزورة بفعلها هذا، أو على الأقل أن الله لن يغفر لها هذا الخطأ في الاجتهاد، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنَبِهَا وَمَا تَأَخَّرَ مَا أَسَرَّتْ وَمَا أَعْلَنَتْ"، فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ حَتَّى سَقَطَ رَأْسُهَا فِي حِجْرِهَا مِنَ الضَّحِكِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيَسُرُّكِ دُعَائِي"؟ فَقَالَتْ: وَمَا لِي لَا يَسُرُّنِي دُعَاؤُكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ إِنَّهَا لَدُعَائِي لِأُمَّتِي فِي كل صلاة"([29]).
ومن المتفق عليه عند المسلمين والرافضة أن الخطأ في الاجتهاد وتقدير الأمور مغفور، قال التبريزي: "إن الخطأ في تقدير الأمور مع الاعتقاد بالصحة ليس موجبًا للمعصية حتى يكون موردًا للغفران"([30]).
وقد أقر وقرر المجلسي: "قال: قوله عليه السلام "فمن أخطأ حكم الله"، أي: بلا دليل معتبر شرعا لتقصيره، أو مع علمه ببطلانه، فلا ينافي كون المجتهد المخطئ الغير المقصر مصيبًا ومثابًا"، وهذا كلام واضح صريح في إثابة المجتهد المخطئ" ([31]).
وقد أقر الخوئي أن المجتهد المخطئ معذور في التسبب في فعل الحرام وذلك في كتاب (الاجتهاد والتقليد): "حكم الخطأ في بيان الفتوى، يقع الكلام في هذه المسألة تارة فيما إذا نقل فتوى المجتهد بالإباحة، ثم ظهر أن فتواه هو الحرمة أو الوجوب أو أن المجتهد أخطاء في بيان فتواه فأفتى بالإباحة مع أن فتواه الحرمة أو الوجوب، كما إذا سئل عن العصير العنبي إذا غلى فأفتى بعدم فيهما فقد سببا إلى وقوع المكلف في ترك الواجب أن فعل الحرام، وغاية الأمر: أنهما ما داما غافلين ومستمرين في اشتباههما معذوران في التسبيب إلى الحرام، فإذا ارتفعت غفلتهما، والتفتا إلى الحال، وجب عليهما إعلام الجاهل، وبيان أن الفعل واجب أو حرام، وأن الافتاء بالإباحة أو نقلها، إنما صدرا غفلة ونحوها" ([32]).
تاسعًا: تنزلا نقول: وماذا لو كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أخطأت ثم تابت؟ أهي أعظم من داوود عليه السلام الذي أخطأ ثم تاب واستغفر؟!
وفي (تفسير الميزان): "قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}، أي: علم داود أنما فتناه بهذه الواقعة أي أنها إنما كانت فتنة فتناه بها والفتنة الامتحان. وقيل: ظن بمعناه المعروف الذي هو خلاف اليقين وذكر استغفاره وتوبته مطلقين يؤيد ما قدمناه، ولو كان الظن بمعناه المعروف كان الاستغفار والتوبة على تقدير كونها فتنة واقعًا وإطلاق اللفظ يدفعه.
والخر على ما ذكره الراغب سقوط يسمع منه خرير، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو، والركوع -على ما ذكره- مطلق الانحناء.
والإنابة إلى الله -على ما ذكره الراغب- الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل وهي من النوب بمعنى رجوع الشيء مرة بعد أخرى. والمعنى: وعلم داود أن هذه الواقعة إنما كانت امتحانًا امتحناه، وأنه أخطأ فاستغفر ربه -مما وقع منه- وخر منحنيًا وتاب إليه" ([33]).
وإثبات تلك التوبة سهل ميسور:
فقد أخرج البيهقي عن سَالِمٌ الْمُرَادِيُّ أَبُو الْعَلَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ: وفيه قَالَ الشَّيْخُ: وَكَانَ السَّبَبُ فِي قِتَالِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ عَلِيًّا أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ صَوَّرَ لَهُمَا أَنَّ عَلِيًّا كَانَ رَاضِيًا بِقَتْلِ عُثْمَانَ، فَذَهَبَا إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَحَمَلَاهَا عَلَى الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ بِتَخْليَةِ عَلِيٍّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ فَجَرَى الشَّيْطَانُ بَيْنَ الْفرِيقَيْنِ حَتَّى اقْتَتَلوا ثُمَّ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَتَابَ أَكْثَرُهُمْ فَكَانَتْ عَائِشَةُ تقَوْلُ: وَدَدْتُ أَنِّي كُنْتُ ثَكَلْتُ عَشَرَةً مِثْلَ وَلَدِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَأَنِّي لَمْ أَسْرِ مَسِيرِي الَّذِي سِرْتُ، وَرُوِيَ أَنَّهَا مَا ذَكَرَتْ مَسِيرَهَا قَطُّ إِلَّا بَكَتْ حَتَّى تَبِلَّ خِمَارَهَا، وَتقَوْلُ: يَا لِيتَنِي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا بَعَثَ إِلَى طَلْحَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ فَأَتَاهُ فَقَالَ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ، هَلْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمْ وَالِ مَنْ وَالِاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلِمَ تُقَاتِلُنِي؟ قَالَ لَمْ أَذْكُرْ، قَالَ: فَانْصَرَفَ طَلْحَةُ، ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ حِينَ رُمِيَ بَايَعَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ ثُمَّ قَضَى نَحْبَهُ فَأُخْبِرَ عَلِيٌّ بِذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَبَى اللَّهُ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا وَبَيْعَتِي فِي عُنُقِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا بَلَغَهُ رُجوعُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَقَالَ: "أَمَا وَاللَّهِ مَا رَجَعَ جُبْنًا وَلَكِنَّهُ رَجَعَ تَائِبًا وَحِينَ جَاءَ ابْنُ جَرْمُوزٍ قَاتِلُ الزُّبَيْرِ قَالَ: لِيَدْخُلْ قَاتِلُ ابْنِ صَفِيَّةَ النَّارَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَكلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ"([34]).
وهذا بيان عذرها على لسانها رضي الله عنها، فَقَالَتْ: إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ يَحْجِزَ بَيْنَ النَّاسِ مَكَانِي قَالَتْ: وَلَمْ أَحْسِبْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ، وَلَوْ عَلِمْتُ ذَلِكَ لَمْ أَقِفْ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ أَبَدًا قَالَتْ: فَلَمْ يَسْمَعِ النَّاسُ كَلَامِي، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيَّ، وَكَانَ الْقِتَالُ، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ مِنْ قُرَيْشٍ كُلُّهُمْ يَأْخُذُ بِخِطَامِ جَمَلِ عَائِشَةَ حَتَّى لَا يُقْتَلَ، ثُمَّ حَمَلُوا الْهَوْدَجَ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَنْزِلًا مِنْ تِلْكَ الْمَنَازِلِ، وَجُرِحَ مَرْوَانُ جِرَاحًا شَدِيدَةً، وَقُتِلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ"([35]).
وقد ذكرنا قبل ذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها أن يغفر الله لها ما تقدم من ذنبها وما تأخر.
وأما عند الرافضة فالأمر لا يحتاج إلى ذكر نصوص في توبتها، فإن المفيد قال: إن كل الذنوب مغفورة دون توبة ما عدا الشرك.
وجاء في كتاب (المسائل السرورية): "قوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأخبر أنه لا يغفر الشرك مع عدم التوبة منه، وأنه يغفر ما سواه بغير التوبة، ولولا ذلك لم يكن لتفريقه بين الشرك وما دونه في حكم الغفران معنى معقول"([36]).
بل حتى الكبائر مغفورة دون توبة، قال الطوسي: "وهذه الآية من آكد ما دل على إن الله تعالى يعفو عن المذنبين من غير توبة، ووجه الدلالة منها: أنه نفى أن يغفر الشرك إلا مع التوبة، وأثبت أنه يغفر ما دونه، فيجب أن يكون مع عدم التوبة، لأنه إن كان ما دونه، لا يغفره إلا مع التوبة، فقد صار ما دون الشرك مثل الشرك، فلا معنى للنفي، والاثبات.
وكان ينبغي أن يقول: " إن الله لا يغفر " المعاصي إلا بالتوبة ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول الحكيم أنا لا أعطي الكثير من مالي تفضلا، وأعطي القليل إذا استحق علي، لأنه كان يجب أن يقول: أنا لا أعطي شيئا من مالي إلا إذا استحق علي كيف وفي الآية ذكر العظيم الذي هو الشرك، وذكر ما هو دونه؟
والفرق بينهما بالنفي والاثبات، فلا يجوز ألا يكون بينهما فرق من جهة المعنى. فان قيل: نحن نقول: إنه يغفر ما دون الشرك من الصغائر من غير توبة. قلنا: هذا فاسد من وجهين".([37])
فهنا نقول للرافضة إن الأمر لا يحتاج لإثبات توبتها رضي الله عنها -لو قلنا إنها عصت-وذلك أن جميع المعاصي مغفورة عندكم دون توبة إلا الشرك، ولم يكن في خروجها للإصلاح بين الناس شرك باتفاق فثبت المطلوب.
وهنا إلزام للرافضة: إن أبوا الاعتراف بتوبتها، فنقول قال الله تعالى {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
لو افترضنا أن عائشة حاربت الله ورسوله -كما تزعمون قبح الله زعمكم-، فالسؤال هنا: هل تابت قبل أن يقدر عليها على رضي الله عنه أم لا؟ إن قلتم: نعم، قلنا: الحمد لله، قد أنهينا بابًا من أبواب الخلاف، واستخرجنا منكم اعترافًا بأن عائشة قد تابت والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وإن قلتم إنها -رضي الله عنها-لم تتب من الذنب وقد قدر عليها على -رضي الله عنه-كما هو معلوم فلماذا لم ينفذ عليٌّ رضي الله عنه في أمه حد الحرابة، ولماذا أكرمها وحماها وعاقب من يتعرض لها مع أنها حاربت الله ورسوله –في زعمكم الكاذب-؟!
عاشرًا: إن عمارًا قد شهد لأم المؤمنين بالجنة في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشهادة بذلك حكم عام باعتبار العاقبة والمآل، وقول عمار حكم خاص في حادثة خاصة، فرجع الحكم الخاص إلى العام وآل الأمر إلى تلك العاقبة السعيدة فانتفى الطعن، ومعلوم أن نصوص الوعد الوعيد متعلقة بتحقق شروط وانتفاء موانع، فقد علم عمار أن شروط دخول الجنة وانتفاء موانعها حاصلة في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وأن شروط دخول النار وانتفاء موانعها منتفية في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقد ثبت بذلك أنه ما ذمها بل مدحها.
وذلك: "أَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ صَالِحِي الْبَشَرِ مِنْ الزَّلَّاتِ وَالْهَفَوَاتِ تَرْفَعُ لَهُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ، وَتُبَدِّلُ لَهُمْ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ سَيِّئَةً تَكُونُ سَبَبَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ - الْعَفْوُ أَحَبَّ إلَيْهِ لَمَا اُبْتُلِيَ بِالذَّنْبِ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فَرَحُهُ بِتَوْبَةِ عَبِيدِهِ وَضَحِكِهِ مِنْ عِلْمِ الْعَبْدِ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ، فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَبِهِ يَنْكَشِفُ سَبَبُ مُوَاقَعَةِ الْمُقَرَّبِينَ الذُّنُوبَ" ([38]).
فتبين من ذلك أن عمار مدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها لما قرن دخول الجنة بالمخالفة -في رأي عمار- التي وقعت من أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها.
وبعد كل هذا نقول للطاعنين من الرافضة، كما قال عمار لأحد أسلافهم فيما ثبت "عَنْ عَمْرِو بْنِ غَالِبٍ، أَنَّ رَجُلاً نَالَ مِن عَائِشَةَ عِنْدَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فَقَالَ: اغْرُبْ مَقْبُوحًا مَنْبُوحًا، أَتُؤْذِي حَبِيبَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"([39]).
فثبت من هذا كله أن عمار رضي الله عنه لم يقصد ما قصده الشيعة، بل ولم يفهم أحد من الحاضرين ما فهمه الشيعة، وما بنوه على قول عمار محض تخريف وتحريف قد أرغوا فيه وأزبدوا بجهل وتطاول على المقام العالي لصدِّيقة الأمة بنت صدِّيقها رضي الله عنهم جميعًا.
والحمد الله رب العالمين
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
([1]) صحيح البخاري، (9/55).
([2]) نظرة عابرة الى الصحاح الستة، عبد الصمد شاكر، (ص158).
([3]) الفاحشة، (ص258).
([4]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، (2/441-443).
([5]) الفوائد الرجالية، (3 /125).
([6]) الاحتجاج للطبرسي، (1 /251).
([7]) العواصم من القواصم، ط الأوقاف السعودية، (1/154).
([8]) المرجع نفسه، (1/155).
([9]) أخرجه البخاري في (الصحيح) من طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار.
([10]) المستدرك، (2 /329).
([11]) قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» وأقره الذهبي.
([12]) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (1/190-192).
([13]) المسند الجامع، (13/475).
([14]) الاعتقادات في دين الإمامية، (ص76).
([15]) تصحيح اعتقادات الإمامية، (ص117).
([16]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح، (32/370).
([17]) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، القسطلاني، (10/194).
([18]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح، (32/369).
([19]) اختيار معرفة الرجال (1/38- 39).
([20]) قال الذهبي مُعلِّقًا في (التلخيص): صحيح. وانظر كذلك (السلسلة الصحيحة) برقم (2255).
([21]) تحفة الأحوذي، (10/262).
([22]) مجمع البيان، الطبرسي (8/177).
([23]) السنن الكبرى للبيهقي (7/111).
([24]) مجموع الفتاوى، (4/363).
([25]) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، (16 /277).
([26]) رسائل الشريف المرتضى، (4/ 65).
([27]) جامع المقاصد، (12/64).
([28]) تذكرة الفقهاء، (ط. ق)، (2/ 567-568).
([29]) صحيح ابن حبان، محققا، (16/48)؛ وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.
([30]) صراط النجاة، جواد التبريزي، (3/ 466).
([31]) ملاذ الأخيار، المجلسي، (10 /10- 11).
([32]) الاجتهاد والتقليد، (ص 371).
([33]) تفسير الميزان، (17 /193).
([34]) الاعتقاد للبيهقي (ص 371).
([35]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/452).
([36]) المسائل السرورية، (ص 101).
([37]) تفسير التبيان، الطوسي، (3/218- 219).
([38]) مجموع الفتاوى، (4/378).
([39]) المسند الجامع، (13/475).
لتحميل الملف pdf