الشبهة الواحد والعشرون
الزعم بأن أم المؤمنين عائشة روت رواية تنفي دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها.
محتوى الشبهة:
قال أحد الشيعة في هذا السياق: "ومن تلك الأدلة ما رواه أحمد بن حنبل والبيهقي وابن هشام والطبري وابن كثير عن ابن إسحاق بسنده عن عائشة قالت: "والله ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء".
وحديثها هذا يشير إلى أن الدفن لم يكن في حجرتها لكانت قد شهدته أو علمت بمقدّماته على الأقل، فهي تصرح بأنها لم تعلم بدفنه صلى الله عليه وسلم مطلقاً حتى فجئها سماع صوت المساحي في آخر ليلة الأربعاء، الأمر الذي يعني أن حجرتها هي حجرة أخرى غير التي دُفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم بيد أنها ليست ببعيدة عنها بحيث أن صوت المساحي التي تعمل يصل إليها.
ومفاد الحديث: يستبعد احتمال أن تكون حينذاك خارج حجرتها، ولذا لم تعلم حتى سمعت صوت المساحي؛ إذ الوقت كان «آخر الليل» والمرأة في المجتمع لا تكون في غير مسكنها في ذلك الوقت المتأخر، كما أنه لا احتمال؛ لأن تكون قد انتقلت إلى مسكن آخر مؤقتاً مثلاً؛ إذ ذلك لم يرد في شيء من الحديث والتاريخ لا في شأنها ولا في شأن بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد استشهاده".([1])
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: أجمعت الأمة على أن النبي صلى الله عليه وسلم دُفن في حجرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومن أنكر كون النبي صلى الله عليه وسلم مدفون في حجرة عائشة فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأن هذا من ضروريات علوم الشريعة وهو جحد لحجية التواتر القطعي، والذي بإسقاطه يسقط الكتاب والسنة، وإليك النَّقول:
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها "فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي، قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَدُفِنَ فِي بَيْتِي"([2]).
وقال ابن عبد البر: "وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دُفِنَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مِنْ بَيْتِهِ بَيْتِ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) ثُمَّ أُدْخِلَتْ بُيُوتُهُ الْمَعْرُوفَةُ لِأَزْوَاجِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مَسْجِدِهِ فَصَارَ قَبْرُهُ فِي الْمَسْجِدِ صلى الله عليه وسلم".([3])
وقال ابن تيمية: "لَيْسَ فِي الْأَرْضِ قَبْرُ نَبِيٍّ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ إلَّا قَبْرُ نَبِيِّنَا، وَمَا سِوَاهُ فَفِيهِ نِزَاعٌ".([4])
وقال: "لَمَّا دُفِنَ الرَّسُولُ دُفِنَ فِي حُجْرَتِهِ وَبَيْتِهِ لَمْ يُدْفَنْ فِي الْمَسْجِدِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُعْتَكَفُ فِيهِ وَالْبَيْتَ لَا يُعْتَكَفُ فِيهِ وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَالْمَسْجِدُ لَا يَمْكُثُ فِيهِ جُنُبٌ وَلَا حَائِضٌ وَبَيْتُهُ كَانَتْ عَائِشَةُ تَمْكُثُ فِيهِ وَهِيَ حَائِضٌ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ بَيْتٍ مَرْسُومٍ تَمْكُثُ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَانَتْ تُصِيبُهُ فِيهِ الْجَنَابَةُ فَيَمْكُثُ فِيهِ جُنُبًا حَتَّى يَغْتَسِلَ وَفِيهِ ثِيَابُهُ وَطَعَامُهُ وَسَكَنُهُ وَرَاحَتُهُ؛ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْبُيُوتَ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ " بُيُوتَ النَّبِيِّ " فِي كِتَابِهِ وَأَضَافَهَا تَارَةً إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَتَارَةً إلَى أَزْوَاجِهِ؛ وَلَيْسَ لِتِلْكَ الْبُيُوتِ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ وَفَضِيلَتُهُ وَفَضِيلَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَيْهَا وَلَا الصَّلَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِأَلْفِ صَلَاةٍ".([5])
وقال ابن كثير: "قَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، دُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ الَّتِي كَانَتْ تَخْتَصُّ بِهَا شَرْقِيَّ مَسْجِدِهِ فِي الزَّاوِيَةِ الْغَرْبِيَّةِ الْقِبْلِيَّةِ مِنَ الْحُجْرَةِ، ثُمَّ دُفِنَ بَعْدَهُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا".([6])
وقال ابن القيم مقررًا نقل أهل المدينة، وأنه حجة: "وَأَمَّا نَقْلُ الْأَعْيَانِ وَتَعْيِينُ الْأَمَاكِنِ فَكَنَقْلِهِمْ الصَّاعَ وَالْمُدَّ وَتَعْيِينُ مَوْضِعِ الْمِنْبَرِ وَمَوْقِفِهِ لِلصَّلَاةِ وَالْقَبْرِ وَالْحُجْرَةِ وَمَسْجِدِ قُبَاءَ وَتَعْيِينُ الرَّوْضَةِ وَالْبَقِيعِ وَالْمُصَلَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَنَقْلُ هَذَا جَارٍ مَجْرَى نَقْلِ مَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمِنًى وَمَوَاضِعِ الْجَمَرَاتِ وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ وَمَوَاضِعِ الْإِحْرَامِ كَذِي الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةِ وَغَيْرِهِمَا".([7])
وقال العلامة المعلمي: "ذكر العلماء رحمهم الله أنه لا يثبت العلم بموضع قبر نبي غير نبينا صلى الله عليه وسلم".([8])
وقال الشيخ ابن باز: "وقد أجمع علماء الإسلام من الصحابة ومن بعدهم أنه صلى الله عليه وسلم دفن في بيت عائشة -رضي الله عنها- المجاور لمسجده الشريف".([9])
وهذا معلوم بالتواتر قطعًا؛ ولذلك فمن أنكره فقد كفر، قال الإمام الحميدي رحمه الله فيمن قال: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ نَبِيُّ وَلَكِنْ لَا أَدْرِي هُوَ الَّذِي قَبْرُهُ بِالْمَدِينَةِ أَمْ لَا، فَقَالُ: «مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ».([10])
ورواه اللالكائي عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال ذلك: "َسَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: «مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ". ([11])
وقال العجلوني: "ويكفر منكر كون قبر نبينا في المدينة في المكان المخصوص، ولا يكفر منكر قبر نبي غيره بخصوصه حتى إبراهيم".([12])
قال السمهودي: "والذي صح أن محل القبور الشريفة في صفة بيت عائشة"([13])، وقال أيضا: "والحجرة الشريفة هي بيت عائشة وما حوله".([14])
قال الآجري: "لَمْ يَخْتَلِفْ جَمِيعُ مَنْ شَمِلَهُ الْإِسْلَامُ، وَأَذَاقَهُ اللَّهُ الْكَرِيمُ طَعْمَ الْإِيمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دُفِنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْأَخْبَارِ وَالْأَسَانِيدِ الْمَرْوِيَّةِ: فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، بَلْ هَذَا مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِ الْمَشْهُورِ الَّذِي لَا يُنْكِرُهُ عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ بِالْعِلْمِ، بَلْ يَسْتَغْنِي بِشُهْرَةِ دَفْنِهِمَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- عَنْ نَقْلِ الْأَخْبَارِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا مِمَّنْ رَسَمَ لِنَفْسِهِ كِتَابًا نَسَبَهُ إِلَيْهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَرَسَمَ كِتَابَ الْمَنَاسِكِ، إِلَّا وَهُوَ يَأْمُرُ كُلَّ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِمَّنْ يُرِيدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَوْ لَا يُرِيدُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، وَأَرَادَ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُقَامَ بِالْمَدِينَةِ لِفَضْلِهَا إِلَّا وَكُلَّ الْعُلَمَاءِ قَدْ أَمَرُوهُ وَرَسَمُوهُ فِي كُتُبِهِمْ وَعَلَّمُوهُ كَيْفَ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَيْفَ يُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عُلَمَاءُ الْحِجَازِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الشَّامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَعُلَمَاءُ أَهْلِ مِصْرَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَعُلَمَاءُ خُرَاسَانَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْيَمَنِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ".([15])
ثانيًا: الرواية التي ساقها الرافضي، وهي رواية الإمام أحمد "عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: "مَا عَلِمْنَا بِدَفْنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ ".([16])
قلت: هذه الرواية اختلف فيها أهل العلم ما بين مصحح ومضعف على اختلاف العبارات.
قال ابن عبد البر: "مَحْفُوظٌ"([17])، وقال الألباني:" صحيح".([18])، وقال محققو المسند:" محتمل للتحسين".([19]) وقال البوصيري في الإتحاف: "سَنَدُهُ ضَعِيف".([20])، وقال العيني: "فيه فاطمة بنت محمَّد مجهولة".([21]) وقال الحويني: "وقع اضطراب في إسناده".([22])
فهذه الرواية لو فرض أنها تخالف رواية إسنادها صحيح، لكان هذا موجبا للحكم بضعفها، فكيف لو كانت مخالفة لحديث متفق عليه في الصحيحين، بل كيف لو كانت مخالفة للتواتر القطعي الذي أجمعت عليه أمة الإسلام قاطبة، ولم يخالف فيه عالم ولا جاهل قط على مدى أربعة عشر قرنا، ولا يقال بل اعترض عليه شذاذ من متأخري الرافضة؛ إذ أن كلام هؤلاء إنما هو عند المسلمين من جنس كلام اليهود والنصارى، ومثل ذلك لا يقدح في إجماع أمة الإسلام باتفاق.
ثالثًاً: لو قلنا بصحة الرواية فما أسهل توجيهها، وذلك بأن يقال ليس في الرواية أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها كانت خارج بيتها، وإنما غاية ما فيه أن حصول العلم بالدفن أول ما حصل كان بسماع صوت المساحي، فقد تكون المرأة مشغولة بالبكاء على الميت فتسمع صوت المساحي فتنتبه ساعتها لفعل الناس بالميت، وهذا مشاهد ومحتمل جد.
بل قد وردت رواية من طريق الواقدي تدل عليه، وأنا أذكرها استئناسا لا استدلالا، ليُعلم أن هذا محتمل، والتفسير بالحديث الضعيف أولى من غيره إن كان له وجه، فقد ذكر ابن كثر رواية عن الْوَاقِدِي قال "حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنِ الحليس بن هشام، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. قَالَتْ بَيْنَا نَحْنُ مُجْتَمِعُونَ نَبْكِي لَمْ نَنَمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بُيُوتِنَا وَنَحْنُ نَتَسَلَّى بِرُؤْيَتِهِ عَلَى السَّرِيرِ، إذا سَمِعْنَا صَوْتَ الْكَرَازِينِ فِي السَّحَرِ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَصِحْنَا وَصَاحَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ صَيْحَةً وَاحِدَةً، وأذَّن بِلَالٌ بِالْفَجْرِ، فَلَمَّا ذَكَرَ النبي صلى الله عليه وسلم وبكى وانتحب، فزادنا حزن، وَعَالَجَ النَّاس الدُّخُولَ إِلَى قَبْرِهِ فَغُلِقَ دُونَهُمْ، فَيَا لَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ مَا أُصِبْنَا بَعْدَهَا بِمُصِيبَةٍ إِلَّا هَانَتْ إِذَا ذَكَرْنَا مُصِيبَتَنَا بِهِ صلى الله عليه وسلم".([23])
في هذه الرواية رد على قول أحد الشيعة: "لم يرد في شيء من الحديث، ولا التاريخ شيء يفيد أنها انتقلت إلى مسكن آخر"!
قلت: فهذه الرواية تقول إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعن في بيت واحد مما يفيد خروجهن جميعا من بيوتهن إلى بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
وهذه الرواية:
تقول إن النساء كن يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم على سريره وهو ميت ومع ذلك ما علموا بالدفن إلا بعد سماع صوت الْكَرَازِينِ، فالأمر غايته أن الصحابة الذين تولوا الدفن جاءوا ليحفروا القبر فسمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم صوت الحفر في هذا الوقت المتأخر من الليل فعلموا بالدفن، وهذا طبيعي جدا في زمان لم تنتشر فيه المصابيح، بل صح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن بيتها لم يكن فيه مصباح ففي رواية الشيخين من حديثها "أَنَّهَا قَالَتْ: «كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلاَيَ، فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا»، قَالَتْ: وَالبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ".([24])
وفي رواية للإمام أحمد: "قَالَتْ عَائِشَةُ: بَعَثَ إِلَيْنَا آلُ أَبِي بَكْرٍ بِقَائِمَةِ شَاةٍ لَيْلًا، فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَطَعْتُ، أَوْ أَمْسَكْتُ وَقَطَعَ، فَقَالَ الَّذِي تُحَدِّثُهُ: أَعَلَى غَيْرِ مِصْبَاحٍ؟ فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ عِنْدَنَا مِصْبَاحٌ لَائْتَدَمْنَا بِهِ، إِنْ كَانَ " لَيَأْتِي عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الشَّهْرُ مَا يَخْتَبِزُونَ خُبْزًا، وَلَا يَطْبُخُونَ قِدْرًا".([25])
وحتى لو فرضنا -جدلا-وجود مصباح في بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطفاء المصابيح ليلا ففي رواية مسلم عن "جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ - أَوْ أَمْسَيْتُمْ -، وفيه- وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ».([26])
والإجماع أن الدفن كان ليلاً، ففي هذا الظلام لا يكون هناك طريق للعلم بالدفن غير السماع، حتى ولو كانت في نفس الحجرة.
الثاني: أن يقال: وحتى ولو جاءت رواية صحيحة بعدم تواجد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها في بيتها، فليس في هذا ما يستنكر شرعاً ولا عرفاً، إذ أن الحجرة إذا تواجد فيها رجال لموت ميت، فإن من المستحسن للمرأة أن تخرج إلى حجرة أخرى من حجر ضرائرها كما في رواية الواقدي السابقة، ولن تكون المرأة في هذه الحالة قد خرجت من بيتها، بل هي مازالت في دار زوجها قطعًا، بل لو فرضنا أن المرأة خرجت من البيت كله إذا امتلأ بالرجال للمبيت عند أبيها مثلا فهذه ضرورة من الضرورات المبيحة للمرأة الخروج من بيتها في العدة، وهذا كله نقوله تنزلاً، وإلا فليس في لفظ الرواية أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها كانت قد خرجت من بيتها على ما بيناه آنفاً.
وعليه فهذا الفهم المنكوس ليس إلا من طمس بصيرة المعترض.
رابعًا: قد اعترف الشيعة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد دُفن في حجرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
قال المجلسي: "وَقُبِضَ بِالْمَدِينَةِ مَسْمُوماً يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ عَشَرَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَ هُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَ سِتِّينَ سَنَةً وَ أُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ وَقَبْرُهُ بِالْمَدِينَةِ فِي حُجْرَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا وَ كَانَ قَدْ أَسْكَنَهَا فِي حَيَاتِهِ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ (ص) اخْتَلَفَ أَهْلُ بَيْتِهِ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُدْفَنُ بِالْبَقِيعِ وَقَالَ آخَرُونَ يُدْفَنُ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبِضْنَبِيَّهُ إِلَّا فِي أَطْهَرِ الْبِقَاعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُدْفَنَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا فَاتَّفَقَتِ الْجَمَاعَةُ عَلَى قَوْلِهِ (ع) وَدُفِنَ فِي حُجْرَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ".([27])
وقال المفيد: "وقبره صلى الله عليه وسلم بالمدينة في حجرته التي توفي فيها، وكان قد أسكنها في حياته عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة، فلما قبض صلى الله عليه وسلم اختلف أهل بيته ومن حضر من أصحابه، في الموضع الذي ينبغي أن يدفن فيه: فقال بعضهم: يدفن بالبقيع. وقال آخرون: يدفن في صحن المسجد. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن الله تعالى لم يقبض نبيه عليه السلام إلا في أطهر البقاع، فينبغي أن ندفنه في البقعة التي قبض فيها. فاتفقت الجماعة على قوله، ودفن في حجرته على ما ذكرناه".([28])
ثم هم قد أجمعوا على أن الحسن بن علي قد استأذن أم المؤمنين عائشة في أن يُدفن في الحجرة، وقد أذنت رضي الله عنها بذلك كما جاء في أسد الغابة ([29]) في سياق الكلام عن الإمام الحسن بن علي رضي الله عنه: (ولما حضرته الوفاة أرسل إلى عائشة يطلب منها أن يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم فلقد كنت طلبت منها فأجابت إلى ذلك فلعلها تستحي مني فإن أذنت فادفني في بيتها وما أظن القوم يعني بني أمية إلا سيمنعونك فإن فعلوا فلا تراجعهم في ذلك وادفني في بقيع الغرقد فلما توفي جاء الحسين إلى عائشة في ذلك فقالت: نعم وكرامة).
وفي تاريخ دمشق ([30]): "أن حسن بن علي بن أبي طالب أصابه بطن فلما عرف بنفسه الموت أرسل إلى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن تأذن له أن يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها فقالت نعم بقي موضع قبر واحد قد كنت أحب أن ادفن فيه وأنا أؤثرك به".
وفي (الاستيعاب): "وقد كانت أباحت له عائشة أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها وكان سألها ذلك في مرضه وقد كنت طلبت إلى عائشة إذا مت أن تأذن لي فأدفن في بيتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت نعم وإني لا أدري لعلها كان ذلك منها حياء فإذا أنا مت فاطلب ذلك إليها، فإن طابت نفسها فادفني في بيتها... فلما مات الحسن أتى الحسين عائشة فطلب ذلك إليها فقالت نعم وكرامة"([31]).
وأما الذي منع الحسن فهم بنو أمية، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): "وَذكر بن سَعْدٍ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَوْصَى أَخَاهُ أَنْ يَدْفِنَهُ عِنْدَهُمْ إِنْ لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ فَصَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ فَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ".([32])
والمقصود: أنهم يعترفون باستئذان الحسن لأم المؤمنين عائشة في الدفن في الحجرة، وهذا دليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دُفن في حجرتها لا غير ذلك.
والحمد الله رب العالمين
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[1]- الفاحشة- ياسر الحبيب- (439-440).
[2]- صحيح البخاري- (2/ 102).
[3]- الاستذكار- (3/54).
[4]- مجموع الفتاوى- (27/ 254).
[5]- مجموع الفتاوى - (27/ 259).
[6]- البداية والنهاية، ط هجر- (8/ 153).
[7]- إعلام الموقعين عن رب العالمين- (2/ 282).
[8]- عمارة القبور، (ص 287).
[9]- مجموع فتاوى، ابن باز، (2- 381).
[10]- السنة، لعبد الله بن أحمد- (1/ 194).
[11]- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- (5/ 1069).
[12]- كشف الخفاء- (2/ 403).
[13]- وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى- (1/268).
[14]- وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى- (2/ 147).
[15]- الشريعة للآجري- (5/ 2368).
[16]- مسند أحمد-43/370، وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 347)، والطحاوي (1/ 514)، وابن عبد البر في "التمهيد" (24/397).
[17]- الاستذكار- (3/55).
[18]- مختصر الشمائل- (ص 197).
[19]- مسند أحمد، ط الرسالة- (40/391).
[20]- إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة- (2/ 494).
[21]- نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار- (7/ 462).
[22]- إقامة الدلائل على عموم المسائل، للشيخ أبي إسحاق الحويني (1/ 41).
[23]- البداية والنهاية، ط إحياء التراث- (5/ 291).
[24]- صحيح البخاري- (1/ 86)؛ صحيح مسلم- (1/ 367).
[25]- مسند أحمد، ط الرسالة - (43/ 23).
[26]- صحيح مسلم- (3/ 1595).
[27]- ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار-المجلسي- (9/ 8).
[28]- المقنعة- المفيد- (ص 457).
[29]- الغابة (1/261).
[30]- تاريخ دمشق (13/289)
[31]- الاستيعاب (1/115).
[32]- فتح الباري، لابن حجر- (13/ 308).
لتحميل الملف pdf