شبهات وردود

زعم الشيعة أنه يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج خبيثة بدليل زوجتي نوح ولوط عليهما السلام!

الشبهة التاسعة عشر

زعم الشيعة: أنه يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج خبيثة بدليل زوجتي نوح ولوط عليهما السلام

 

محتوى الشبهة:

قال الشيعة: "وهذان النبيان العظيمان نوح ولوط (عليهم الصلاة والسلام) قد أخبرنا الله تعالى في كتابه عن فساد زوجتيهما وخبثهما، فكيف اختاراهما زوجتين إذا كان لا يجوز للطيب أن يختار الخبيثات مطلقا؟!

فإن قيل: إنما كانتا طيبتين حينما تزوجاهما ثم خبثا بعد ذلك، وكذلك كان حال اللائي طلقهن رسول الله أو التي ارتدت بعده.

قلنا: الإشكال باق؛ إذ المعلوم أن أفعال الأنبياء (عليهم السلام) لا تكون إلا بوحي وإرادة ربانية، والله عالم بأن فلانة ستفسد وتخبث بعد، فلماذا أمر بأن يتزوجها، فيكون ذلك إكرامًا للخبيثة -عاقبة وحقيقة- وهذا مناقض لتوجيهه بأن لا تكون الخبيثة للطيب مطلقًا حسب الفرض؟! ولا يسع المخالفين الفرار من هذا الإشكال إلا بالتخلي عن الإطلاق والتنازل عن ادعاءهم حتمية أن تكون زيجات الأنبياء منحصرة الصد في إكرام من تزوجوا بهن، وكذا التنازل عن حتمية أن تكون الزوجة المختارة طيبة طاهرة صالحة، وبهذا يعلم أن قوله تعالى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سورة النور:26]، إنما هو توجيه عام لا يقبل التخصيص والاستثناء فيصح أن ينكح الطيب -وإن كان نبيا- خبيثة إذا كان ثمة وجه من أوجه الحكمة والمصلحة في ذلك بحسب في ميزان الشرع، ومن هذا القبيل كانت زيجات الأنبياء (عليهم السلام) في بعض مواردها".([1])

الرد التفصيلي على الشبهة:

أولاً: لم يخبرنا الله في كتابه أن امرأة نوح، وامرأة لوط كانتا خبيثتين كما زعم الخبيث وإنما قال الله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [سورة التحريم:10].

ولابد من إطالة النفس قليلا حول هذه الآية لنثبت جهل الرافضي بما يستدل به، فأقول:

قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "الْخِيَانَة: التَّفْرِيط فِيمَا يؤتمن الْإِنْسَان عَلَيْهِ. ونقيضها: الْأَمَانَة. والتخون فِي اللُّغَة: التنقص، تَقول: تخونني فلَان حَقي إِذا تنقصك. وَسُئِلَ ثَعْلَب: أَيجوزُ أَن يُقَال: إِن الخوان إِنَّمَا سمي بذلك لِأَنَّهُ يتخون مَا عَلَيْهِ، أَي: ينتقص، فَقَالَ: مَا يبعد ذَلِك.

وَذكر أهل التَّفْسِير أَن الْخِيَانَة [فِي الْقُرْآن] على خَمْسَة أوجه: -

أَحدهَا: الْمعْصِيَة وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي سورة الْبَقَرَة: {علم الله أَنكُمْ كُنْتُم تختانون أَنفسكُم}، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تخونونها بالمعصية. وَفِي الْأَنْفَال: {لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم}، وَفِي حم الْمُؤمن: {يعلم خَائِنَة الْأَعْين}.

وَالثَّانِي: نقض الْعَهْد. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْمَائِدَة: {وَلَا تزَال تطلع على خَائِنَة مِنْهُم}، فِي الْأَنْفَال: {وَإِمَّا تخافن من قوم خِيَانَة}.

وَالثَّالِث: ترك الْأَمَانَة. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة النِّسَاء: {وَلَا تكن للخائنين خصيما}. نزلت فِي طعمة بن أبيرق، كَانَ عِنْده درع فخانها.

وَالرَّابِع: الْمُخَالفَة فِي الدّين. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة النِّسَاء: {إِن الله لَا يحب من كَانَ خوانًا أَثِيمًا}، وَفِي الْأَنْفَال: {وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتك فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ}.

وَالْخَامِس: الزِّنَى، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي يُوسُف: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}([2]).

فإذا كانت الخيانة في كتاب الله تشمل هذه المعاني الخمسة، والخلاف الآن بين المعنيين الأخيرين، وهما الخيانة في الدين بالكفر أو الزنا، فأي المعنيين أراد الله تعالى؟!

ولتحقيق ذلك نقول إن جمهور المفسرين من أهل السنة والرافضة اتفقوا على أن الخيانة إنما كانت خيانة كفر لا فاحشة.

 وأنا أسوق إليكم الآن بعض كلام أهل السنة، وبعض فرق الإسلام:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وَكَانَتْ فِي الظَّاهِرِ مَعَ زَوْجِهَا عَلَى دِينِهِ وَفِي الْبَاطِنِ مَعَ قَوْمِهَا عَلَى دِينِهِمْ خَائِنَةً لِزَوْجِهَا تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى أَضْيَافِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}.

وَكَانَتْ خِيَانَتُهُمَا لَهُمَا فِي الدِّينِ لَا فِي الْفِرَاشِ، فَإِنَّهُ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ؛ إذْ "نِكَاحُ الْكَافِرَةِ" قَدْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ، وَيَجُوزُ فِي شَرِيعَتِنَا نِكَاحُ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ وَهُنَّ الْكِتَابِيَّاتُ، وَأَمَّا "نِكَاحُ الْبَغِيِّ" فَهُوَ: دِيَاثَةٌ. وَقَدْ صَانَ اللَّهُ النَّبِيَّ-صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَنْ يَكُونَ دَيُّوثًا؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْبَغِيِّ حَتَّى تَتُوبَ".([3]) 

وقال أيضًا: "وَخِيَانَةُ امْرَأَةِ نُوحٍ لِزَوْجِهَا كَانَتْ فِي الدِّينِ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ. وَخِيَانَةُ امْرَأَةِ لُوطٍ أَيْضًا كَانَتْ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى الْأَضْيَافِ، وَقَوْمُهَا كَانُوا يَأْتُونَ الذُّكْرَانَ، لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَتُهُمُ الزِّنَا بِالنِّسَاءِ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهَا أَتَتْ فَاحِشَةً، بَلْ كَانَتْ تُعِينُهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَتَرْضَى عَمَلَهُمْ.

ثُمَّ مِنْ جَهْلِ الرَّافِضَةِ أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ أَنْسَابَ الْأَنْبِيَاءِ: آبَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، وَيَقْدَحُونَ فِي أَزْوَاجِهِمْ ; كُلُّ ذَلِكَ عَصَبِيَّةً وَاتِّبَاعَ هَوًى حَتَّى يُعَظِّمُونَ فَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَيَقْدَحُونَ فِي عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُونَ - أَوْ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ -: إِنْ آزَرَ أَبَا إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِنًا، وَإِنَّ أَبَوَيِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَا مُؤْمِنَيْنِ، حَتَّى لَا يَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ-صلى الله عليه وسلم- يَكُونُ أَبُوهُ كَافِرًا، فَإِذَا كَانَ أَبُوهُ كَافِرًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ابْنُهُ كَافِرًا، فَلَا يَكُونُ فِي مُجَرَّدِ النَّسَبِ فَضِيلَةٌ.([4]) 

وقال البغوي: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلصَّالِحِينَ وَالصَّالِحَاتِ مِنَ النِّسَاءِ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ} وَاسْمُهَا وَاعِلَةُ {وَامْرَأَتَ لُوطٍ} وَاسْمُهَا وَاهِلَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَالِعَةُ وَوَالِهَةُ.

{كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} وَهُمْا نُوحٌ وَلُوطٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ {فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ وَإِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا أَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى غَيْرِ دِينِهِمَا، فَكَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَإِذَا آمَنَ بِهِ أَحَدٌ أَخْبَرَتْ بِهِ الْجَبَابِرَةَ وَأَمَّا امْرَأَةُ لُوطٍ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهُ عَلَى أَضْيَافِهِ إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ بِاللَّيْلِ أَوْقَدَتِ النَّارَ، وَإِذَا نَزَلَ بِالنَّهَارِ دَخَّنَتْ لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ".([5])

وقال الطوفي وهو يذكر الخلاف في ابن نوح: "اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، هَلْ كَانَ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ، بَلْ كَانَ لِلزِّنَى ; فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ; قَالُوا: وَإِنَّمَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ، مِنْ أَجْلِ ابْنِ نُوحٍ، وَحَلَفَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِابْنِهِ، وَحَلَفَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّهُ ابْنُهُ، وَلِلنِّزَاعِ مَأْخَذَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخِيَانَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التَّحْرِيمِ: 10]، هَلْ هِيَ بِمَا عَدَا الزِّنَا، أَوْ بِالزِّنَا وَغَيْرِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَانَتَاهُمَا بِالْكُفْرِ، فَكَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ ضَيْفٌ، تُخْبِرُ بِهِ قَوْمَهَا، وَتُغْرِيهِمْ بِهِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَلَا ابْتُلِيَ الْأَنْبِيَاءُ فِي نِسَائِهِمْ بِهَذَا، يَعْنِي الزِّنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: خَانَتَاهُمَا بِالزِّنَا وَغَيْرِهِ.

فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: هُوَ ابْنُهُ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي، قَالَ: لَيْسَ بِابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ خِيَانَتِهَا بِالزِّنَا.

قُلْتُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ.

 أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْخِيَانَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ مُطْلَقَةٌ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى تَحْقِيقِهَا بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَذَى، وَذَلِكَ وَافٍ بِمُطْلَقِ الْآيَةِ، يَبْقَى خُصُوصُ الزِّنَا، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.([6])

وقال ابن كثير([7]) في تفسير قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] وليس المراد بقوله: {فَخَانَتَاهُمَا} في فاحشة، بل في الدين، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء كما قدمنا في سورة النور".([8]) 

وقال إياس آل خطاب: "وعائشة رضي الله عنها بريئة بمجمل القرآن لا بخصوص هذه الآية، كيف لا، وهي أمٌّ للمؤمنين بنص القرآن {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [سورة الأحزاب:6].

وقد جاءت مع أمهات المؤمنين في الخطاب الإلهي ابتداءً تكريماً لهنّ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:59].

 هذه البراءة والطهارة الأولى أما الثانية ففي قوله تعالى بعد آية الإفك في سورة النور {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)} [سورة النور:23-26].

ويكفيها طيباً أن تكون زوجاً لأطيب البشر؛ لتكون خير المحصنات المبرّءات.

ثانيًا: إن المتتبع لآيات القرآن وقصص الأنبياء يعلم أن في القرآن قاعدة لبيان طهارة أهل الأنبياء جميعاً، أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم، وهذا معلوم بالاستقراء، فالتكرار في (إلا امرأته) و (إلا عجوزاً في الغابرين) في قصة لوط عليه السلام واستثنائها وزوجة نوح من بين أزواج الأنبياء بقوله تعالى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } ما كان إلا لبيان القاعدة الأصيلة في أن أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم من المصطفين الأخيار، وهم خير الأهل لخير البشر، لكونهم عاشوا في بيوت نزل فيها الوحي، إلا اثنتين شذتا عن القاعدة كما شذت امرأة فرعون عن قاعدة أهل الفجور والطغيان، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة التحريم:11].

 فأزواج الأنبياء وأمهاتهم وبناتهم طاهرات، وخير الأنبياء وخير البيوت بيت محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأزواجه خير الزوجات، كما أن خير الأمهات مريم عليها السلام وخير البنات فاطمة، وعليه فلن يرضى مسلم أو صاحب مروءة بأن يتكلم أحد في عرضه، فكيف بأمهاتنا؟ وكيف بخير الأمهات وأشرف النساء المحصنات؟ هذا هو الإفك "وأفكته عن الأمر: صرفته عنه بالكذب".([9]) 

وقال ابن العربي: "وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وَقَالُوا هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم -يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الرِّدَّةُ شَرْعًا.

وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْأَمَةِ، وَبَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -عَلَى شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ لَوْ أَشْرَكَ لَحَبِطَ عَمَلُهُ، فَكَيْف أَنْتُمْ؟ لَكِنَّهُ لَا يُشْرِكُ لِفَضْلِ مَرْتَبَتِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]؛ وَذَلِكَ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ إتْيَانُ فَاحِشَةٍ مِنْهُنَّ، صِيَانَةً لِصَاحِبِهِنَّ الْمُكَرَّمِ الْمُعَظَّمِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حِينَ قَرَأَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10]؛ وَاَللَّهِ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَلَكِنَّهُمَا كَفَرَتَا.

وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا ذَكَرَ الْمُوَافَاةَ شَرْطًا هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهَا الْخُلُودَ فِي النَّارِ جَزَاءً، فَمَنْ وَافَى كَافِرًا خَلَّدَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَشْرَكَ حَبِطَ عَمَلُهُ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى، فَهُمَا آيَتَانِ مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ لِأَمَتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ، وَمَا وَرَدَ فِي أَزْوَاجِهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيهِنَّ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ هَتْكًا لِحُرْمَةِ الدِّينِ وَحُرْمَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَلِكُلِّ هَتْكٍ حُرْمَةُ عِقَابٍ، وَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ عَصَى فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ يُضَاعَفُ عَلَيْهِ بِعَدَدِ مَا هَتَكَ مِنْ الْحُرُمَاتِ، وَاَللَّهُ الْوَاقِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ".([10])

وقال الشيخ الشعراوي في تفسيره:" وليس المقصود بالخيانة هنا الخيانة الجنسية"([11]).

وقال أحمد بن إسماعيل الكوراني: " (فَخَانَتَاهُمَا) في الدين لا في الفجور؛ لأنها فراش النبي، ولا عار عليه في كفرها".([12])

وقال أبو منصور الماتريدي: "وذكر بعضهم: أنهما زنيا، فخيانتهما زناهما، وهذا غير ثابت؛ لأن الأنبياء -عليهم السلام -عصموا عما يوجب عليهم العار والشنار، والزوج يعير بزنى زوجته وفراشه، وفيه توهم التهمة في أولادهم؛ فدل أن هذا التأويل غير صحيح، وحاجتنا إلى وجود الخيانة منهما دون التفسير، ولا يجب أن نشهد بهذا إلا بتواتر جاء مزيدًا في الحجة".([13])

وقال الجاحظ: "ولا يشبه قولكم في نساء الأنبياء الذي نعرف من حسن اختيار الله لهم من طيب المناكح وطهارة المداخل، وهذا معنى طبائع الناس لم يكن الله ليترك امرأة نبي تصير إلى تهجينه والتصغير بقدره؛ لأن الرسالة منظفة مصفاة، لا تحمل الأقذاء، ولا تعلق بها الأدناس، ولا يطوق المبطلين عليها الاعتماد".([14]) 

وقال الزحيلي: "فامرأة نوح وامرأة لوط كانتا في بيت النّبوة، ولكنهما خانتا زوجيهما في الكفر، فلم تفدهما رابطة الزواج شيئا من عذاب الله، ولكن ليست الخيانة أخلاقية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وما بغت زوجة نبي قط ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا، وآسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران كانتا في وسط صعب مناف للإيمان، فصبرتا على المكروه، فكانتا في منزلة عالية عند الله تعالى، وذلك المثلان في الآيات".([15])

وتفاسير أهل السنة قاطبة أجمعت على هذا الرأي بفضل الله تعالى.

ثالثاً: أكثر تفاسير الرافضة ذكرت أن الخيانة إنما كانت في الدين لا في الفراش، ومنها على سبيل المثال:

 قال الطبرسي: "{فَخَانَتَاهُمَا} بالنفاق والتظاهر على الرسولين: فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط دلت على ضيفانه".([16])

وقال الفيض الكاشاني: "{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} بالنفاق، والتظاهر على الرسولين، مثل الله حال الكفار والمنافقين في أنهم يعاقبون بكفرهم ونفاقهم، ولا يجابون بما بينهم وبين النبي- صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من النسبة".([17])

وقال أيضا: "{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} بالنفاق والتظاهر على الرسولين. مثل الله حال الكفار والمنافقين -في أنهم يعاقبون بكفرهم ونفاقهم، ولا يحابون بما بينهم وبين النبي والمؤمنين، من النسبة والوصلة - بحال امرأة نوح وامرأة لوط".([18])

وقال الطباطبائي: "قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} الخ، قال الراغب: الخيانة والنفاق واحد إلا أن الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتباراً بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ونقيض الخيانة الأمانة، يقال: خنت فلاناً وخنت أمانة فلان".([19])

وقال ناصر مكارم الشيرازي: "والخيانة هنا لا تعني الانحراف عن جادة العفة والنجابة؛ لأنهما زوجتا نبيين ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة، فقد جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما بغت امرأة نبي قط".

كانت خيانة زوجة لوط هي أن أفشت أسرار هذا النبي العظيم إلى أعدائه، وكذلك كانت زوجة نوح (عليه السلام).

وذهب الراغب في "المفردات" إلى أن للخيانة والنفاق معناً واحداً وحقيقةً واحدةً، ولكن الخيانة تأتي في مقابل العهد والأمانة، والنفاق يأتي في الأمور الدينية وما تقدم من سبب النزول ومشابهته لقصة هاتين المرأتين توجب كون المقصود من الخيانة هنا هو نفس هذا المعنى" ([20]).

وقال أيضاً: "وإنما القصد من الخيانة في قصة نوح ولوط (عليهما السلام)، التجسس لمصلحة الكفار وليس خيانة شرفهما، وأساساً إن هذا العيب من العيوب المنفرة ونعلم أن المحيط العائلي للأنبياء (عليهم السلام) يجب أن يكون طاهرًا من أمثال هذه العيوب المنفرة للناس حتى لا يتقاطع مع هدف النبوة في جذب الناس إلى الرسالة الإلهية".([21]) 

وهذه حجة عقلية على عفة أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.

قال الطباطبائي: "على أنا نقول: إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي ينفر القلوب عنه فمن الواجب أن يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوث الزنا والفحشاء وإلا لغت الدعوة وتثبت بهذه الحجة العقلية عفتهن واقعاً لا ظاهراً فحسب".([22])

وقال صاحب كنز الدقاق: "کٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَیْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا صٰالِحَیْنِ، یرید به تعظیم نوح ولوط فَخٰانَتٰاهُمٰا: بالنّفاق. فَلَمْ یُغْنِیٰا عَنْهُمٰا مِنَ اللّٰهِ: فلن یغن النبیّان عنهما بحقّ الزواج. شيئا: إغناء ما وقيل ادْخُلاَ النّٰارَ، أي: لهما عند موتهما، أو یوم القیامه. مَعَ الدّٰاخِلِینَ: مع سائر الداّخلین من الکفره، الّذین لا وصلة بینهم وبین الأنبیاء".([23])

وقال الطريحي:" قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} الآية. قوله (فَخَانَتَاهُمَا) أي بالنفاق، والتظاهر على الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه: إنه لمجنون، وامرأة لوط دلت على ضيفانه.

وَقِيلَ: خَانَتَاهُمَا بِالنَّمِيمَةِ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِمَا أَفْشَتَاهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، ولا يجوز أن يراد بالْخِيَانَةِ: الفجور، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا زَنَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ الرَّسُولِ-صلى الله عليه وسلم-، وَإِلْحَاقِ الْوَصْمَةِ بِهِ".([24]) 

قلت: ولم يذكر أحد منهم فيما اطلعت عليه من تفاسير الرافضة أنها خيانة الفاحشة، إلا القمي، حيث قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} فقال والله ما عنى بقوله فخانتاهما إلا الفاحشة وليقيمن الحد على فلانة فيما أتت في طريق وكان فلان يحبها"([25]).

وقد سُئِلَ موقع الأبحاث العقائدية السؤال التالي:

 أيّها الأحبّة، جاء في تفسير القمّي في قولـه تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} " والله ما عنى بقولـه: {فَخَانَتَاهُمَا} إلاّ الفاحشة، وليقيمن الحدّ على فلانة فيما أتت في طريق، وكان فلان يحبّها، فلمّا أرادت أن تخرج إلى. . . فكيف بعد ذلك تنفون الموضوع بشدّة وتقولون: الشيعة قاطبة على القول بأنّ الآية نازلة في حقّ مارية، مع أنّ طائفة قليلة من علمائهم فقط أشارت لذلك. ثم أودّ أن أسألكم: هل أنّ زوجات الأنبياء متّفق عند الإمامية على منع وقوع الفاحشة منهن شرعاً تكريماً للنبي-صلى الله عليه وسلم-؟ أم أنّ في المسألة خلاف؟ وشكراً.

فكان الجواب: "بالنسبة للرواية المنقولة من (تفسير القمّي) فيلاحظ:

أوّلاً: إنّ الأدلّة العقلية والنقلية، ومنها إجماع الإمامية، قائمة على تنزيه زوجات الأنبياء (عليهم السلام) من الفواحش، احترازاً من مسّ حياة الأنبياء (عليهم السلام) بالدنس، وعليه فما يوهم أن يكون خلاف ذلك فهو مردود أساساً.

ثانياً: لا يوجد هناك تفسير شيعي يشير إلى أنّ الآية المذكورة قد نزلت في حقّ مارية، وأغلب الظنّ أنّ الذين أسندوا هذا القول للشيعة خلطوا بين هذه الآية وبين شأن نزول الآيات الأوّل من السورة، التي وردت روايات كثيرة بأنّها نزلت في حقّ مارية، عندما أفشى بعض زوجات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سرّها.

ثالثاً: إنّ الرواية المذكورة ليست تامّة السند، فللبحث السندي فيها مجال، فمثلاً: أنّ الروايات الموجودة في نفس الصفحة كُلّها مسندة إلى المعصوم (عليه السلام)، ولكن هذه الرواية بظاهرها هي مقول قول علي بن إبراهيم، ولم يسندها إلى الإمام (عليه السلام).

مضافاً إلى أنّ إسناد تفسير القمّي ليست كُلّها معتبرة، ففيها الصحيح وفيها غيره، فلابدّ من ملاحظة السند في كُلّ مورد، وهو كما ترى في المقام.

رابعاً: إنّ الرواية لم تصرّح باسم الشخص، ولا يمكننا الجزم بنية القائل في استعمال فلان وفلانة، وتمييزهما دعوى بدون دليل.

خامساً: من المسلّم القطعي بإجماع المسلمين، حرمة نكاح زوجات النبيّ-صلى الله عليه وسلم- بصراحة: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، فكيف يحتمل مخالفة هذا الحكم القطعي بمرأى ومسمع من المسلمين؟!

وبالجملة: فالاستدلال المذكور مفنّد من أساسه عقلاً ونقلاً"([26]).

وقال نعمة الله الجزائري في توجيه رواية القمي: "وفى تفسير على بن إبراهيم: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}: والله ما عنى بقوله فخانتاهما إلا الفاحشة. (أقول) ينبغي حمل الفاحشة هنا على معناها اللغوي وهو ما تفاحش قبحه ولا قبح أكبر من الكفر والنفاق" ([27]).

 وقال محسن الأمين: "يعتقد الشيعة وجوب تنزيه الأنبياء عن جميع العيوب و النقائص سواء أكان ذلك في أفعالهم كالأكل على الطريق و مجالسة الأرذال، أو صناعاتهم ككونه حجامًا أو زبالا، أو أخلاقهم كالحقد والحسد والجبن والبخل، أو في أجسامهم كالبرص والجذام، أو عقولهم كالجنون والبله، أو في الخارج عنهم كدناءة الآباء و عهر الأمهات أو الأزواج، فتحصّل من ذلك أن زوجة النبيّ يجوز أن تكون كافرة كما في امرأتي نوح و لوط عليهما السّلام ولا يجوز أن تكون زانية؛ لأن ذلك من النقائص التي تلحق النبيّ فتوجب سقوط محلّه من القلوب وعدم الانقياد لأقواله وأفعاله وذلك ينافي الغرض المقصود من إرساله، و حينئذ فقوله تعالى في حقّ امرأتي نوح ولوط: (فَخَانَتَاهُمَا) [التحريم: 10] يراد منه الخيانة بغير ذلك و لا عموم في لفظ الخيانة".

وقال أيضاً: "أما اعتقادهم في خصوص أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فهو ما نطق به القرآن الكريم و اتفق على نقله أهل الآثار و الأخبار دون ما انفرد به بعضهم و لم يقم برهان على صحته ما روي لأمور سياسية في عصر الملك العضوض أو انفرد به شذاذ لا عبرة بهم، هذا هو اعتقادهم ومن نسب إليهم سوى ذلك فقد أخطأ، فأزواج النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين في لزوم الاحترام و التكريم احتراما للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- وحرمة نكاحهن من بعده: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]".([28])

وبغض النظر عن طعن بعض علماء الرافضة في هذا التفسير –القمي، إلا أنه يخالف الجم الغفير من الروافض، ويخالف إجماع المسلمين، بل والعقلاء كما سبق، وذكرنا الحجة العقلية للطباطبائي، والشيرازي في (تفسيريهما).

وبعد أن نقلنا ما يبطل قول الخبيث في تفسيره لخيانة امرأتي نوح ولوط بأنها الفاحشة، أو الخبث وعدم الطهارة، أُجمل الأدلة على إبطال كون خيانة امرأتي نوح ولوط كانت في الفراش في التالي:

ما ثبت عن ابن عباس في أنه ما زنت امرأة نبي قط، وقد سبق نقله.

خير ما يفسر به كلام الله هو كلام الله، فأول الآية تفسر آخرها وذلك أنه -سبحانه-لما ذكر أن المثل للكفار كانت الخيانة من جنس عمل الكفار جميعا، وهو الكفر لا الزنا الذي قد يشترك فيه المسلم مع الكافر، ولو قصد بالخيانة الفاحشة لما صلح تخصيص المثل بالكفار، وهذا من أقوى أنواع التفسير قاطبة، أن تفسر آخر الآية بأولها، ولا ينازع في هذا إلا جاهل.

إن بني آدم قد اتفقوا على تعيير الرجل بزنا أهله بخلاف كفرها، والله لا يترك امرأة نبي تصير إلى تهجينه والتصغير بقدره؛ لأن في هذا غاية التنفير عن رسالته.

الحكم بالزنا لابد فيه من لفظ صريح، أو شهادة عدول متواترة بذلك، وهذا ما لم يحصل هنا قط، وقد ذكرنا أن للخيانة في كتاب الله خمسة معاني، وبالتالي فهي لفظ مشترك لا تثبت بمثله هذه الجريمة.

قول الله تعالى: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} فالتحتية هنا تدل على أن هاتين المرأتين كانتا فراشا للنبيين فقط لا لغيرهما، وهذا مقتضى قوامة الرجل على امرأته، وأول ما يدخل في القوامة أن يحافظ على عرضه، بخلاف عقيدة المرأة فهي مما لا تدخل تحت القدرة بل ولا التكليف.

كل الآيات التي تكلمت عن امرأة لوط، كما في سورة الأعراف وهود والحجر والشعراء والنمل والصافات والعنكبوت كلها أشارت إلى هلاك امرأة لوط مع قومه، ولم تذكر قط أنها كانت تخونه خيانة فراش، بل وحتى في الكتاب الذي يدعونه مقدس في أسفار العهد القديم، والتي تناولت قصص نوح وفرعون وموسى لم تشير هذه الأسفار بأي إشارة إلى ارتكاب امرأة نوح وامرأة لوط الفاحشة.ومعلوم أنهم اتهموا أنبياء كثر بالزنا، فمن المستبعد جدا أن يحدث مثل هذا الأمر من زوجتي نوح ولوط ولا يذكرونهما، مع اهتمامهم بنسبة كل قبيح إلى الأنبياء، وهذا مما يستأنس به في هذا المقام.

أن القرآن لما تكلم عن امرأة لوط قال عنها أنها "عَجُوز" ومن المستبعد جدا أن تزني العجوز.

عموم قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [سورة النور:26]. فلو كان هناك طيب لخبيثة لانتفى الحصر فقد ذكر الله أن جميع الطيبات للطيبين وجميع الخبيثات للخبيثين فجاء الحصر موافقاً لقوله تعالى {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النور:3].

وقد اتفق كل العقلاء على ذم الدياثة، ومن تزوج من زانية فهو ديوث بلا شك، وحاشا لنوحٍ ولوطٍ عليهما السلام أن يكونا كذلك.

والحمد الله رب العالمين

وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

[1]-  الفاحشة – ياسر الحبيب، (ص 252/253.(

[2]-  ابن الجوزي، نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، (ص٢٨١: ٢٨٣).

[3]-  مجموع الفتاوى- ابن تيمية (7/473).

[4]- منهاج السنة النبوية- ابن تيمية (4/350).

[5]- تفسير البغوي - طيبة- (8/170).

[6]- شرح مختصر الروضة- الطوفي - (2/695-699).

[7]- تفسير ابن كثير (8/ 418)

[8]- انظر: موسوعة الألباني في العقيدة - (8/413).

[9]- القول المعتبر في بيان الإعجاز للحروف المقطعة من فواتح السور- إياس آل خطاب-(ص 59-60).

[10]- أحكام القرآن، لابن العربي، ط العلمية- (1/208).

[11]- تفسير الشعراوي - (5/2837).

[12]- غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني- (ص 193).

[13]- تفسير الماتريدي، تأويلات أهل السنة - (10/97).

[14]- العثمانية- (ص 210).

[15]- التفسير الوسيط للزحيلي- (3/ 2693).

[16]- جوامع الجامع - (3/ 596).

[17]- التفسير الصافي- الفيض الكاشاني - (7/238).

[18]- التفسير الأصفى- الفيض الكاشاني - (2/1325).

[19]- تفسير الميزان- (19/ 343).

[20]- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل- ناصر مكارم الشيرازي- (18/ 462).

[21]- الامثل في تفسير كتاب الله المنزل- ناصر مكارم الشيرازي- (11/ 65).

[22]- تفسير الميزان - الطباطبائي - (15/ 102).

[23]- تفسیر کنز الدقائق وبحر الغرائب- محمد رضا قمي مشهدي- (13/ 341).

[24]- مجمع البحرين-فخر الدين الطريحي – (6/ 244).

([25]) تفسير القمي (2/377).

[26]- موسوعة الأسـئلة العقائدية - مركز الأبحاث العقائدية، (4 /249).

[27]- قصص الأنبياء- نعمة الله الجزائري - (ص 85).

[28]- الشيعة في مسارهم التاريخي- السيد محسن الأمين - (ص 410).


لتحميل الملف pdf

تعليقات