احتجاجهم بقوله تعالى: [فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ ] {التحريم:4} على كفر عائشة وحفصة
قالت الشيعة: إن الصغْوَ هو الزيغ، والزيغ هو الكفر، وهذا دليل على كفرهما- عياذًا بالله!
روى علي بن العاملي عن الصادق أنه قال: «... وقال الله فيها -أي حفصة- وفي أختها عائشة: [إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ] {التحريم:4} أي زاغت، والزيغ: الكفر»([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أوَّلاً: لا عصمة لأحد بعد النبي
فنحن نقول: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير الناس بعد الأنبياء والرسل، ولا يعني ذلك أننا ندَّعِي فيهم العصمة، بل نقول بجواز وقوع الأخطاء والمعاصي والآثام منهم، بل والكبائر كذلك.
ثانيًا: طلب التوبة بصيغة المضارع ينفي وقوع الكبائر.
طلبُ التوبة في قوله تعالى: [إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ {التحريم:4} متعلقٌ بصغيرة وليس بكبيرة، وهي من اللمم الذي تكفره الصلاة والصوم والصدقة، ولا تحتاج لتوبة خاصة، وهي تقع من كل أحد.
ودلالة ذلك أنه سبحانه عبر عن طلب التوبة بصيغة المضارع في فعل الشرط فأفاد التكرار والتجدد، بخلاف التعبير بصيغة الماضي في فعل الشرط، فهو يفيد افتراض حصول الفعل مرةً واحدةً أو نادرًا، ومن أمثلة ذلك:
1. قوله تعالى: [ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] {التوبة:11} فهنا طلب التوبة جاء بالفعل الماضي [تَابُوا] وليس بالمضارع؛ لأن التوبة هنا المقصود بها التوبة العامة من الكفر، وهي لا تتكررُ كثيرًا.
2. قوله تعالى: [وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا] {النساء:16} فهنا عبر بالماضي؛ لأن طلب التوبة يرادُ به التوبة العامة التي لا تتكرر، فالأصل في الكبائر عدم التكرار بخلاف الصغائر، ولذلك وجب التعبير بالماضي لا بالمضارع.
3. قوله تعالى: [بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ] {البقرة:112}، وقوله تعالى: [وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا] {الجن:14} فهنا عبر بالفعل الماضي (أسلم)؛ لأن معناه الدخول في الإسلام، بدليل أن الآية الأولى كانت في مقابل الموازنة مع اليهود والنصارى، فالآية التي قبلها تقول: [وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{البقرة:111} فكان الرد على اليهود والنصارى أن النجاة في الإسلام لا غيره بقوله: [بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ] {البقرة:112} وكذلك الآية الثانية.
4. وأما في قوله تعالى: [ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ] {لقمان:22} ففي هذه الآية عبر بصيغة المضارع [يُسْلِمْ ] ومعناه الخضوع والانقياد، وهو عمل يومي يفيد الاستمرار والتجدد.
وفي قوله تعالى: [إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ] {التحريم:4} عبر بالمضارع الذي يقتضي أن ذلك طلب للتوبة الجزئية -لا العامة- العارضة، وهي تتكرر وتكثر من بني آدم بطبيعتهم، ونعبر عنها بالصغائر أو اللمم.
ثالثًا: معنى الصغو لا يقتضي فعل الكبائر ولا الكفر.
الصَّغْوُ هو مطلق الميل، كما هو معلوم من لغة العرب، ولا يثبت بمجرد ذكر هذه الكلمة معصية لا صغيرة ولا كبيرة، وإنما يكون بحسب السياق والحال، فالكفر فيه معنى صَغْو القلب، وكل معصية ولو صغرت فيها صَغْوٌ للقلب، بل ومحبة الشيء على خلاف الأوْلى يدخل في معنى الصَّغْوِ، وتشبيه صغْوِ قلب المؤمن بالكافر من أعظم الظلم، ومَن فعل ذلك لزمه تكفير من وقع في مطلق الصغو، وهذا يصدق على كل صغيرة!
ويمكن أن يقال: لم تحدد الآية الميل إلى ماذا، فأقرب شيء للتقدير هو الصغو إلى أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه العسل أو الجارية، وليس بكبيرة أن تميل زوجة من زوجاته وتحب أن يحرم على نفسه العسل، بل غاية ما فيه أن يكون صغيرة من صغائر الذنوب.
رابعًا: ذكر القلب في قولِهِ: [قلوبكما؛ لأنه موضع المحبة لرسول الله ، فعُلِم من هذا أن طلب التوبة إنما كان عن مقتضى المحبة الصحيح، وهذا ليس ذنبًا، بل هو طاعة بنص كلام معصوم الرافضة، فعن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله : «المرأة تغار على الرجل تؤذيه، قال: ذلك من الحب»([2]).
فثبت من هذا أن طلب التوبة لم يكن من معصية، وإنما نظرًا لرفعة درجة أمهات المؤمنين طُلِب منهن أن يتبن من حسنة هي في حقهن سيئة، وهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، وعليه فلا يلزمنا فهم الرافضة المنكوس لكتاب الله تعالى.
خامسًا: تقدير المحذوف الذي يدل على ما صغت إليه قلوبهما
قال الندوي: «لم تنص الآية الكريمة [إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ ] {التحريم:4} على الشيء الذي مالت إليه قلوب عائشة وحفصة ، وقد ذكر بعض المفسرين أن قلوبهما -نعوذ بالله- مالت إلى إيذاء الرسول ، بينما القاعدة تقول: إن الكلمة المحذوفة تكون موجودة حوالي الجملة إما قبلها أو بعدها، أو تدل عليها القرائن الغالبة، وقد ذكرت كلمة (التوبة) من قبل، فيغلب الظن أن هذه هي الكلمة المقدرة والمحذوفة، ولو أظهرنا ما حذف من الآية تكون العبارة كالآتي: (إن تتوبا إلى الله فهو هين فقد صغت قلوبكما إلى التوبة إلى الله)»([3]).
فالقلوب مالت إلى التوبة، وقد ثبتت تلك التوبة من كتاب الله الذي وعد نبيه أن يكون له نساء هذه صفاتهن [عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ] {التحريم:5} فالآية نصت على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يليق به إلا نساء هذه صفاتهن، ومن تلك الصفات [تَائِبَاتٍ]، فلما تيقنا أن النبي علَّمنا أن هذه صفات نسائه، ومن تلك الصفات التوبة، فهذا إثبات لتوبتهن من كتاب الله.
أما السنة فقد ثبت فيها أن النبي دعا لأم المؤمنين عائشة، ففي صحيح ابن حبان: عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَةَ أَنهَا قَالَتْ: لَمَّا رَأَيْتُ مِن النبِيِّ طِيبَ نفسٍ قُلْتُ: يا رسول اللهِ ، ادعُ اللهَ لِي، فَقَالَ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهَا وَمَا تأخَّرّ، ومَا أَسَرَّتْ وَمَا أَعْلَنتْ» فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ حَتَّى سَقَطَ رَأْسُهَا فِي حِجرِها مِن الضَّحِكِ، فقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ق: «أيسُرُّك دُعَائِي؟» فَقَالَتْ: وَمَا لِي لَا يسُرُّني دُعَاؤُكَ؟ فَقَالَ : «وَاللهِ إنها لدُعائي لأُمتي في كُلِّ صلاة»([4]).
وعن أبي إسحاقَ، عن صِلَةَ، عن حُذَيفَةَ ا أنه قال لامرأَتِه: «إن سَرَّكِ أن تَكُوني زَوجَتِي في الجَنةِ فلا تَزَوَّجِي بَعدِي؛ فإِن الْمَرأَةَ في الجَنةِ لِآخِرِ أزواجِها في الدُّنيا، فلِذَلِكَ حَرُمَ على أزواجِ النبِيِّ أن يَنكِحن بَعدَه؛ لأنهُن أزواجُه في الجَنةِ»([5]).
وعند الشيعة في (بحار الأنوار): «قال : «زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة»، والجنة محرمة على الكافرين، ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة، والله تعالى أكرم زوجاته إذ جعلهن أمهات المؤمنين، والكافرة لا تصلح لذلك؛ لأن هذه أسوة الكرامة، ولقوله تعالى: [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ] {التوبة:28}، ولقوله : «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة، إلا سببي ونسبي»، وذلك لا يصح في الكافرة»([6]).
فإذا تقرر ما سبق؛ فقد ثبت أن الله قد تاب عليهن، وكرمهن في الدنيا والآخرة، والذنب شأن بني آدم، ومن عيَّر مؤمنا ابتلي بما عيَّره به عقوبةً له على جُرمه، كما جاء في كتاب (عين الحياة) للمجلسي قال: «وروي بسند معتبر عنه أنه قال: من أذاع فاحشة كان كمبتدئها، ومن عيَّر مؤمنا بشيء لم يمت حتى يركبه»([7]).
اقرأ أيضا| الرد على زعم الشيعة حسد أم المؤمنين عائشة غيرها من النساء
([1]) الصراط المستقيم، علي بن يونس العاملي (3/168).
([2]) الكافي (5/506).
([3]) سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين (ص147).
([4]) التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (10/197) وحسنه الألباني.
([5]) السنن الكبرى، البيهقي، ت التركي (13/561).
([6]) بحار الأنوار (16/389).
([7]) الكافي (2/356).
لتحميل الملف pdf