أكاديمية حفظني القرآن شبهات وردود

استدلالهم على نفي صحبة الصديق  للنبي في الغار بصلاته خلف سالم مولى أبي حذيفة

جاءت الشيعة برواية من «صحيح البخاري» تذكر أن الصديق صلى خلف سالم مولى أبي حذيفة في مسجد قباء، ثم ربطوا تلك الرواية بأخرى تذكر أن سالِمًا كان يَؤمُّ الناسَ في موضعٍ بقباء قبل أن يهاجر النبي، وخرجوا من الجمع بين الروايتين إلى أن أبا بكر هاجر قبل هجرة النبي وليس معه في صحبَتِه.

الرد التفصيلي على الشبهة:

أولاً: أما الحديث الأول: فرَوَاه الإمامُ البخاريُّ بلفْظِ: «حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ العُصْبَةَ -مَوْضِعًا بِقُبَاءٍ- قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ ق كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا»([1]).

وأما الرواية الأخرى: ففي صحيح البخاري بلفظ: «حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ قَالَ: «كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَزَيْدٌ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ»([2]).

فلو قرأ هذا الرافضيُّ الرواية الأولى لَعَلِم أنها تختلف عن الرواية الثانية؛ لأن الروايةَ الأولى وصفَت موضعَ الصلاة بأنه (موضعٌ بقباء)، ولا يوجد فيها اسم أبي بكر، وهي التي فيها صلاة سالم بالمهاجرين الأوائل قبل هجرة النبي ، وأما الرواية الثانية ففيها أن الصلاة كانت في «مسجد بقباء»، وفيها اسم أبي بكر، ومن المعلوم أن مسجد قباء قد بُني بعد مَقْدَمِ رسول الله، وعليه فالرواية تبطل الزعم الذي زعمته الإمامية.

ثانيًا: ومع أن الأمرَ واضحٌ إلا أننا سنزيده بيانًا من كلام أهل العلم:

قال الحافظ ابن رجب: «حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ بن المنذر، ثنا أَنَس بن عياض، عَن عُبَيْدِ الله، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر قَالَ: «لما قدم المهاجرون الأولون العُصْبَةَ -موضِعًا بقُباء- قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُول الله كَانَ يؤُمُّهم سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حذيفة، وكان أكثرَهم قرآنًا»، وخرَّجه أبو داود من طريق ابن نمير، عَن عُبَيْدِ الله، وزاد: «فيهم عُمَر بن الخَطَّاب، وأبو سَلَمَة بن عَبْد الأسد».

وخرَّجه البخاري فِي «الأحكام» من «صحيحه» من طريق ابن جُرَيْج، عَن نَافِع، أخبره أن ابن عُمَر أخبره، قَالَ: «كَانَ سَالِم مَوْلَى أَبِي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحابَ النَّبِيّ فِي مسجد قُباء، فيهم: أبو بَكْر، وعمر، وأبو سَلَمَة، وزيد، وعامرُ بن رَبِيعَة».

والمراد بهذا: أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهم بعد مَقْدَمِ النَّبِيِّ؛ ولذلك قَالَ: «فِي مسجِدِ قباء»، ومسجد قباء إنما أسَّسَه النَّبِيُّ  بعد قُدومه المدينة، فلذلك ذكر منهم أَبَا بَكْر، وأبو بَكْر إنما هاجَرَ مَعَ النَّبِيِّ، وليس فِي هذه الرواية: «قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيّ »، كما فِي الرواية الَّتِي خرجها البخاري ها هنا فِي هَذَا الباب، فليس فِي هَذَا الحَدِيْثِ إشكال كما توهمه بعضهم»([3]).

وقد جاء في «صحيح البخاري» أن بناء مسجد قباء كان بعد مَقْدَمِ رسول الله ، قال الإمام البخاري: «حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ ، زَوْجَ النَّبِيِّ ، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ ...»، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللهِ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللهِ مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الحَرَّةِ، فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ، أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ، لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللهِ وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ اليَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ العَرَبِ، هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ، فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللهِ بِظَهْرِ الحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ -مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللهِ - يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللهِ ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللهِ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللهِ  فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأَسَّسَ المَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ، لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ -غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ-، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: «هَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ المَنْزِلُ».

ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ الغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ؛ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: لَا، بل نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ، وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:

«هَذَا الحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ، هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ»،

وَيَقُولُ: «اللهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ، فَارْحَمِ الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَهْ»،

فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرَ هَذَا البَيْتِ»([4]).

وقال ابن هشام: «(بِنَاءُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ): قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ بقُباءٍ، فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُ»([5]).

فاعجب لشبهةٍ مبنيةٍ على تركيبٍ لحديثين، ثم استخراج احتمال يرده تواتُرٌ مقطوعٌ به عند السنة والشيعة! وما كان هذا إلا إفلاسًا من الشيعة بعد تضييق الحجج عليهم من أهل السنة.

ثالثًا: مثل هذه الشبهات تدل على الجهل الشديد بالسيرة عند هؤلاء، ثم هم يزعمون محبتهم لأهل البيت!

رابعًا: إذا تنزلنا مع هذا القول فإنه يدل على أن أبا بكر كان من الذين هاجروا قبل النبي والذين مدحهم الله في كتابه فقال: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ {الحشر:8} ولو كان منافقَا كما زعموا لما ترك دياره وهاجر من أرضه، فإن المنافق يتكاسل عن الصلاة ويصلي خوفًا من الناس، فكيف يقال إنه هاجر في الوقت الذي كان عامة الناس تعادي النبي حتى اضطر الرسول إلى أن يهاجر سرًّا؟! فدل هذا على فضل الصديق مع فرض صحة شبهتهم، فكيف وقد تبين بطلانها!

اقرأ أيضا| إنكارهم صحبة أبي بكر للنبي في الغار

([1]) صحيح البخاري (1/140).

([2]) صحيح البخاري (9/71).

([3]) فتح الباري، ابن رجب الحنبلي (6/176 - 177).

([4]) صحيح البخاري (5/60).

([5]) السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري (1/494).


لتحميل الملف pdf

تعليقات