الشبهة الثالثة
إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن مشورة أبي بكر وعمر في الخروج للقتال خارج المدينة
محتوى الشبهة:
ذكر ذلك كثير من علماء الشيعة، منهم الحلي في كتابه (نهج الحق وكشف الصدق) قال: "وفي (الجمع بين الصحيحين) في مسند أنس بن مالك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر، فأعرض عنه. وهذا يدل على سقوط منزلتهما عنده"([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: هذان صاحبا رسول الله r، المقدمان على سائر الصحابة رضي الله عنهم في العلم والفضل، وهما وزيرا النبي r، وصاحبا مشورته، ومحل أمانته، والأحاديث والآثار في فضلهما ومنزلتهما من النبي r، ومن الصحابة، ومن أهل الإسلام أكثر من أن تحصر؛ ولذلك كانا لا يفارقان النبي r في سلم ولا حرب وهذا شأن أهل المشورة.
روى التِّرْمِذِيُّ والْحَاكِم، وَصَححهُ عَن عبد الله بن حنْطَب t:"أَن رَسُول الله رأى أَبَا بكر وَعمر، فَقَالَ: هَذَانِ السّمع وَالْبَصَر"([2]).
قال ابن حزم: "وَكَانَ أَبُو بكر t مَعَه لَا يُفَارِقهُ إيثاراً من رَسُول الله r لَهُ بذلك، واستظهاراً بِرَأْيهِ فِي الْحَرْب وأنساً بمكانه، ثمَّ كَانَ عمر رُبمَا شُورِكَ فِي ذَلِك أَيْضا، وَقد انْفَرد بِهَذَا الْمحل دون عَليّ وَدون سَائِر الصَّحَابَة إِلَّا فِي الندرة"([3]).
ومما يدل على أن استشارة النبي r كانت في البداية موجه لأبي بكر وعمر، رواية الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "اسْتَشَارَ النَّبِيُّ r مَخْرَجَهُ إِلَى بَدْرٍ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَشَارَ عُمَرَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ، فَقَالَ: بَعْضُ الْأَنْصَارِ: إِيَّاكُمْ يُرِيدُ نَبِيُّ اللهِ r يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ.."([4]).
وعليه فقد كانت إشارة أبي بكر وعمر في محلها، وإلا لما اتخذهما النبي r وزراء ومستشارين له.
ثانيًا: الكلام الذي صدر من أبي بكر وعمر كان تشجيعًا للنبي r، وتقوية له، ونصرة، قال تعالى: {وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال 62].
ومما يدل على أن إشارة أبي بكر وعمر كانت تقوية لقلب النبي r ونصرة لدين الله مما يدل على ذلك رواية الطبري، وفيها: "... وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ r فِي أَصْحَابِهِ، حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ ذَفِرَانُ، فَخَرَجَ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِهِ نَزَلَ وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ النَّبِيُّ r النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ t فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ t فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[ المائدة:24]، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بِرْكِ الْغِمَادِ يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r خَيْرًا، ثُمَّ دَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ»، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ عَلَى الْعَقَبَةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا، نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. فَكَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r خَافَ أَنْ لَا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ. قَالَ: فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ r قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَجَلْ..." ([5]).
وهذا من أصرح الأدلة على ما ذكرناه من إحسان أبي بكر وعمر في المشورة.
ثالثاً: سبب الإعراض كما هو واضح أن النبي r كان يريد رأي الأنصار؛ لأنهم أهل الدار، والمنعة ومقتضى بيعتهم في العقبة أنهم يدافعون عن رسول الله r في المدينة فقط.
ولذلك كان رسول الله r يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه من المدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ([6]).
قال الامام النووي: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r شَاوَرَ أَصْحَابَهُ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: "إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا لَأَخَضْنَاهَا".
قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا قَصَدَ r اخْتِبَارَ الْأَنْصَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ لِلْقِتَالِ وَطَلَبِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّمَا بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّنْ يَقْصِدُهُ فَلَمَّا عَرَضَ الْخُرُوجَ لِعِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ فَأَجَابُوهُ أَحْسَنَ جَوَابٍ بِالْمُوَافَقَةِ التَّامَّةِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ وَغَيْرِهَا، وَفِيهِ اسْتِشَارَةُ الْأَصْحَابِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ"([7]).
ولأجل ذلك كان الإعراض؛ لأن خروج أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للحرب مضمون، وقد تركوا ديارهم وناصروا رسول الله r في شتى المواقف.
رابعًا: هل كل من أعرض عنه النبي r يكون منافقًا أو كافرًا؟
ثبت في كتب الشيعة أن النبي r أعرض عن فاطمة ابنته، ففي (المناقب) لابن شهر آشوب، قال:" أَبُو صَالِحٍ الْمُؤَذِّنُ فِي كِتَابِهِ بِالْإِسْنَادِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، فَإِذَا فِي عُنُقِهَا قِلَادَةٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا، فَقَطَعَتْهَا، فَرَمَتْ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص أَنْتِ مِنِّي يَا فَاطِمَةُ، ثُمَّ جَاءَهَا سَائِلٌ فَنَاوَلَتْهُ الْقِلَادَةَ"([8]). والرواية عن موسى بن جعفر عن آبائه ([9]).
إذًا فهل لما أعرض النبي r عن فاطمة كانت منافقة، أو كافرة، أو جاهلة كما تزعمون؟!!
بل وأعرض النبي r أيضًا عن سلمان الفارسي t :
نقل عالمهم الشيعي نور الله التستري رواية طويلة، وفيها:" قلنا لسلمان: سل رسول اللّه r: من نسند إليه أمورنا، ويكون مفزعنا، ومن أحب الناس إليه؟ فلقيه فسأله، فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه"([10]).
إذا فهل سلمان يقال فيه كما قلتم عن أبي بكر وعمر؟!
سبحانك هذا بهتان عظيم
([1]) نهج الحق وكشف الصدق، الحلي (1/339).
([2]) صححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، وانظر: (السراج المنير في ترتيب أحاديث صحيح الجامع الصغير) (2/683).
([3]) الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (4/ 107).
([4]) مسند أحمد (20/281).
([5]) تفسير الطبري (11/ 41 - 43)، وسيرة ابن هشام (1/ 606 – 615).
([6]) فقه السيرة (ص413).
([7]) شرح صحيح مسلم، النووي (12/ 124).
([8]) المناقب لابن شهر آشوب (3/343).
([9]) كشف الغمة في معرفة الأئمة، الإربلي (1/ 446).
([10]) إحقاق الحق وإزهاق الباطل، التستري (31/319).
لتحميل الملف pdf