الشبهة الثامنة
قول أم المؤمنين عائشة إني أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
محتوى الشبهة:
روى الحاكم بسنده: "عن قيس بن أبي حازم، قال: قالت عائشة، رضي الله عنها وكانت تحدث نفسها أن تدفن في بيتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فقالت: «إني أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثا ادفنوني مع أزواجه» فدفنت بالبقيع. «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "([1]).
قالت الشيعة: إن عائشة اعترفت على نفسها بأنها أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاعتراف سيد الأدلة.
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: الحدث يطلق على كل شيء وقع بعد أن لم يكن، قال ابن فارس: "(حدث) الحاء والدال والثاء أصل واحد، وهو كون الشيء لم يكن. يقال حدث أمر بعد أن لم يكن"([2]).
وعليه فالحدث كلمة لا تختص بالبدعة أو المعصية، بل تشمل ذلك وغيره من أحداث، فلا يجزم بمجرد قولها "إني أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثا"، لا يجزم بذلك على أن فعلها كان معصية، وقد قصدت بقولها ما حدث من مسيرها يوم الجمل.
قال الذهبي: "قُلْتُ: تَعْنِي بِالحَدَثِ: مَسِيْرَهَا يَوْمَ الجَمَلِ، فَإِنَّهَا نَدِمَتْ نَدَامَةً كُلِّيَّةً، وَتَابَتْ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهَا مَا فَعَلَتْ ذَلِكَ إِلاَّ مُتَأَوِّلَةً، قَاصِدَةً لِلْخَيْرِ، كَمَا اجْتَهَدَ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَالزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الكِبَارِ - رَضِيَ اللهُ عَنِ الجَمِيْعِ -."([3]).
وعليه فهذا القول ليس صريحا في ارتكابها رضي الله عنها ما تؤزر عليه.
ثانيًا: مجرد قول الإنسان عن نفسه أنه عصى الله لا يمكن أن يؤخذ منه أنه عصى فعلا، وإنما هذا يدخل في باب التواضع لرب العالمين، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول يقول: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً»([4]).
وجاء عند الشيعة أن موسى الكاظم اعترف أنه عصى الله بجميع جوارحه.
قال المجلسي: "فائدة سنية: كنت أرى الدعاء الذي كان يقوله أبو الحسن في سجدة الشكر، وهو: «رب عصيتك بلساني ولو شئت وعزتك لأخرستني، وعصيتك ببصري ولو شئت وعزتك لأكمهتني، وعصيتك بسمعي ولو شئت وعزتك لأصممتني، وعصيتك بيدي ولو شئت وعزتك لكنعتني، وعصيتك بفرجي ولو شئت وعزتك لأعقمتني، وعصيتك برجلي ولو شئت وعزتك لجذمتني، وعصيتك بجميع جوارحي التي أنعمت بها علي ولم يكن هذا جزاك مني"([5]).
فهل يقول الشيعة أن موسى الكاظم عصى الله حتى بفرجه؟!!
فثبت من ذلك أن اعتراف أهل الإيمان لا يلزم منه إثبات المعصية عليهم، بل وقد يكون الواحد منهم في أعلى درجات الإيمان ويقول ذلك تواضعا لله.
ثالثاً: الرواية فيها إثبات توبتها رضي الله عنها، ومن اعترف بذنبه تاب الله عليه.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بْنِ مَعْقِلٍ بن مقرن، قال: "قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: أَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» ، قَالَ: نَعَمْ"([6]).
وفي حديث سيد الاستغفار، قال الحافظ ابن حجر: " أَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي أَعْتَرِفُ بِوُقُوعِ الذَّنْبِ مُطْلَقًا لِيَصِحَّ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ لَا أَنَّهُ عَدَّ مَا قَصَّرَ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ شُكْرِ النِّعَمِ ذَنْبًا قَوْلُهُ: «فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ غُفِرَ لَهُ وَقَدْ وَقَعَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ الطَّوِيلِ وَفِيهِ الْعَبْدُ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ وَتَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ"([7]).
فالتائب محبوب لله تعالى، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
وقد جاءت نصوص أخرى فيها ندم أم المؤمنين رضي الله عنها على مسيرها الى البصرة.
قال الامام ابن أبي شيبة: "حدثنا وكيع، عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: "قالت عائشة: وددت أني كنت غصنا رطبا ولم أسر مسيري هذا"([8]).
وقال الذهبي: " رَوَى: إِسْمَاعِيْلُ بنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بنِ العَلاَءِ المَازِنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيْقٍ، قَالَ:
قَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا مَرَّ ابْنُ عُمَرَ، فَأَرُوْنِيْهِ.
فَلَمَّا مَرَّ بِهَا، قِيْلَ لَهَا: هَذَا ابْنُ عُمَرَ.
فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْهَانِي عَنْ مَسِيْرِي؟
قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلاً قَدْ غَلَبَ عَلَيْكِ -يَعْنِي: ابْنَ الزُّبَيْرِ –"([9]).
وأم المؤمنين رضي الله عنها ثبت في السنة الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أن يغفر الله لها ما تقدم من ذنبها وما تأخر، فعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:" لَمَّا رَأَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طِيبَ نفسٍ قُلْتُ يا رسول اللَّهِ! ادعُ اللَّهَ لِي! فَقَالَ:
«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنَبِهَا وَمَا تأخَّرّ مَا أسرَّت وَمَا أَعْلَنَتْ» فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ حَتَّى سَقَطَ رَأْسُهَا فِي حِجرِها مِنَ الضَّحِكِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أيسُرُّك دُعَائِي»؟ فَقَالَتْ: وَمَا لِي لَا يسُرُّني دُعَاؤُكَ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ إنها لدُعائي لأُمتي في كُلِّ صلاة»"([10]). فهل هناك فضيلة أفضل من هذا الدعاء الذي دعاه النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة؟!!!
رابعًا: لا نسلم أن خروجها رضي الله عنها كان معصية، بل كان اجتهاداً يدور بين الأجرين للمصيب والأجر للمخطئ
قال ابن الملقن: "ولم يكن خروجها على نية القتال، وإنما قيل لها: اخرجي؛ لتصلحي بين الناس، فإنك أمهم ولن يعنوك بقتال. فخرجت لذلك، وكانت نية بعض أصحابها إن ثبت لهم البغي أن يقاتلوا التي تبغي"([11]).
وعليه: فلا تثريب على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها في اجتهادها، ولا يقول مسلم أن الخروج لجمع كلمة المسلمين على المطالبة بتطبيق آية في كتاب الله وحكم من أحكام القرآن وهو المطالبة بالقصاص من القاتل لا يقول مسلم أن هذا معصية لله أو لرسوله صلى الله عليه وسلم، بل هو عين الطاعة، ولئن كان من تثريب فهو على من ترك القصاص المأمور به في الشريعة، لكنه معذور في ذلك بعدم القدرة علي فعل ذلك قبل جمع الكلمة، وعليه فكلا الطرفين معذور في اجتهاده.
وأما القتل الذي وقع فإنما كان بفعل السبأية قتلة عثمان. قال ابن حزم: "وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه، ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم، وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه، وإقامة حق الله تعالى فيهم فأسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم، وكانوا أعداداً عظيمة يقربون من الألوف فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم؛ إذ رأوا السيف قد خالطهم"([12]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها.
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي - رضي الله عنهم - أجمعين، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم"([13]).
ومما يدل على ذلك بأدلة واضحة أنه قد ثبت عن علي أنه قال نفس اللفظة التي قالتها أم المؤمنين، ولم يقل أحد أن علياً عصى الله بخروجه.
عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَامَ عَلِيٌّ فَقَالَ: " خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَإِنَّا قَدْ أَحْدَثْنَا بَعْدَهُمْ أَحْدَاثًا يَقْضِي اللهُ تَعَالَى فِيهَا مَا شَاءَ"([14]).
وفي كتاب (السنة): "عن أبي معشر، عن إبراهيم، قال: ضرب علقمة هذا المنبر فقال: خطبنا علي رضي الله عنه على هذا المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر ما شاء الله أن يذكر ثم قال: «ألا إنه بلغني أن قوما يفضلوني على أبي بكر وعمر ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت فيه ولكن أكره العقوبة قبل التقدم من قال شيئا من ذلك فهو مفتر، عليه ما على المفتري خير الناس كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم أَحْدَثْنَا بَعْدَهُمْ أَحْدَاثًا يقضي الله عز وجل فيها ما أحب"([15]).
خامسًا: ثبت عن علي أنه اجتهد في خروجه ذلك، وندم على هذا الاجتهاد وعلم أنه أخطأ.
في سنن أبي داود: "عن قيس بن عباد، قال:" قلت لعلي رضي الله عنه أخبرنا عن مسيرك هذا أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأي رأيته؟ فقال: ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ولكنه رأي رأيته"([16]).
وفي كتاب (السنة) لعبد الله بن الإمام أحمد: "عن قتادة، عن الحسن بن علي رضي الله عنه عن قيس بن عباد، قال: قال: علي رضي الله عنه لابنه الحسن يوم الجمل: «يا حسن، ليت أباك مات من عشرين سنة» قال: فقال له الحسن: يا أبت قد كنت أنهاك عن هذا. قال: يا بني لم أر الأمر يبلغ هذا"([17]).
عن طلحة بن مصرف، قال: "أجلس علي رضي الله عنه طلحة يوم الجمل فمسح التراب عن رأسه، ثم التفت إلى الحسن بن علي، فقال: "وددت أني مت قبل هذا بثلاثين سنة"([18]).
وقد جاء في كتب الشيعة أن عليًّا ندم على خوضه معركة الجمل والنهروان رغم تحذير ابنه الحسن له.
قال المجلسي في (بحار الأنوار) عن جعفر بن محمد أنه قال:" وحدثني به سفيان عن الحسن قال أبو عبد الله ع: زدنا. قال: حدثنا عباد عن جعفر بن محمد، أنه قال: لما رأى علي بن أبي طالب (ع) يوم الجمل كثرة الدماء، قال لابنه الحسن: يا بني هلكت. قال له الحسن: يا أبت أليس قد نهيتك عن هذا الخروج؟ فقال علي (ع): يا بني لم أدر أن الأمر يبلغ هذا المبلغ"([19]).
والحمد الله رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[1] - المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/7).
[2] - مقاييس اللغة، ابن فارس (2/36).
[3] - سير أعلام النبلاء ط الحديث (3/462).
-[4] صحيح البخاري (8/67(.
-[5] بحار الأنوار، المجلسي (25/203).
-[6] مسند أحمد - ط الرسالة-ج6-ص37، وقال عنه المحقق: صحيح، وهذا إسناد حسن.
-[7] فتح الباري لابن حجر (11/100).
-[8] مصنف ابن أبي شيبة (7/544).
-[9] سير أعلام النبلاء، ط: الرسالة (2/193).
-[10] صحيح ابن حبان (16/47) وصححه الألباني في الصحيحة برقم (2254).
-[11] التوضيح لشرح الجامع الصحيح (32/369).
-[12] الإحكام في أصول الأحكام؛ لابن حزم (2/85).
-[13] منهاج السنة النبوية (4/316-317).
-[14] مسند أحمد، ط الرسالة (2/247) وقال المحقق: إسناده قوي.
-[15] السنة، لعبد الله بن أحمد (2/588).
-[16] سنن أبي داود (4/217)، وصححه الألباني. ورواه عبد الله بن أحمد في السنة (2/561).
-[17] السنة لعبد الله بن أحمد (2/589).
-[18] المستدرك على الصحيحين (3/420 ح5597).
[19]- بحار الأنوار، المجلسي (47/356).
لتحميل الملف pdf