الشبهة الخامسة والأربعون
ارتفاع أصوات أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
محتوى الشبهة:
من الشبهات التي يكثر طرح الرافضة لها في حق الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أنهما اختلفا وتنازعا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وارتفعت أصواتهما عنده.
وتفصيل ذلك ما جاء في "صحيح البخاري" في كتاب التفسير من طريق ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير قال:" قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أَمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]
قال الأميني معلقًا على الحديث:" ألا تعجب من الرجلين أنهما طيلة مصاحبتهما هذا النبي المعظم صلى الله عليه وآله وسلم لم يحدهما التأثر بأخلاقه الكريمة إلى الحصول على أدب محاضرة العظماء والمثول بين أيديهم لا سيما هذا العظيم، العظيم خلقه بنص الذكر الحكيم، وما عرفا أن الكلام بين يديه لا بد وأن يكون تخافتًا وهمسًا إكبارًا لمقامه، وإعظامًا لمرتبته، وأن لا يتقدم أحد إليه بالكلام إلا أن يكون جوابًا عن سؤال، أو ما ينم عن امتثال أمر، أو إخبارًا عن مهمة، أو سؤالًا عن حكم، لكنهما تقدما بالكلام الخارج عن ذلك كله، وتماريا واحتدم الحوار بينهما، وارتفعت أصواتهما في ذلك، وكاد الخيران أن يهلكا حتى جعلا أعمالهما في مظنة الإحباط؛ فنزلت الآية الكريمة"
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: : كل ما في الرواية أنه حصل خلاف في أمر التولية على وفد بني تميم، بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، واختلفت آراؤهما في المسألة، ووصل الحد إلى أن ارتفعت أصواتهما، فنزلت الآيةُ معلمةً وموضحةً للصحابة وللأمة من بعدهم.
ثانيًا: ورد في نفس الرواية:" قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ".
وفي هذا دليل: أنهما رضي الله عنهما ما عادا لمثل هذا الفعل أبدًا حتى بعد نزول الآية.
قال عليٌّ القاري:" كأخي السّرار - بكسر السين المهملة-، أي: إلّا مشابهًا لصاحب النجوى والمساررة، والمعنى: لا أكلمك إلّا سرًا، وأنّ عمر رضي الله عنه كما في "البخاري": (كان إذا حدّثه) أي: كلمه عليه الصلاة والسلام (حدّثه كأخي السّرار)، أي: في خفض صوته، كما بينه بقوله (مَا كَانَ يُسْمِعُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بضم الياء وكسر الميم، (بعد هذه الآية) وفي نسخة (بعد هذه الآية)، أي: بعد نزولها، (حتّى يستفهمه) أي: النبي صلى الله عليه وسلم من عمر عما ساروه به لكمال اخفائه".
ثالثًاً: ورد في كتب الرافضة ما يدل أنَّ الثقة الجليل عندهم "زرارة بن أعين" رفع صوته في حضرة الإمام الباقر، ومع ذلك برر علماء الرافضة فعلته، واعتذروا له باعتذارات شتى.
فقد روى الكليني بسنده عن زرارة قال:" دخلت أنا وحمران - أو أنا وبكير - على أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إنا نمد المطمار قال: وما المطمار؟ قلت: التر، فمن وافقنا من علوي أو غيره توليناه، ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زرارة قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عز وجل: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98]، أين المرجون لأمر الله؟ أين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؟ أين أصحاب الأعراف أين المؤلفة قلوبهم؟!
وزاد حماد في الحديث: "قال: فارتفع صوت أبي جعفر (عليه السلام) وصوتي حتى كان يسمعه من على باب الدار.
وزاد فيه جميل، عن زرارة: "فلما كثر الكلام بيني وبينه، قال لي: يا زرارة حقًّا على الله أن [لا] يدخل الضلال الجنة" .
فهذه الرواية تبين أن زرارة كان يجادل الإمام، بل وصل به الحال أن رفع صوته بحضرته حتى كان يسمعه من على باب الدار.
يقول المجلسي عن الحديث: "الحديث الثالث: حسن كالصحيح. "فارتفع صوت أبي جعفر (عليه السلام)"، هذا مما يقدح به في زرارة ويدل على سوء أدبه، ولما كانت جلالته وعظمته ورفعة شأنه وعلو مكانه مما أجمعت عليه الطائفة، وقد دلت عليه الأخبار المستفيضة، فلا يعبأ بما يوهم خلاف ذلك.
ويمكن أن يكون هذه الأمور:
هو في بدو أمره قبل كمال معرفته.
أو كان هذا من طبعه وسجيته، ولم يمكنه ضبط نفسه، ولم يكن ذلك لشكه وقلة اعتنائه.
أو كان قصده معرفة كيفية المناظرة في هذا المطلب مع المخالفين.
أو كان لشدة تصلبه في الدين وحبه لأئمة المؤمنين، حيث كان لا يجوز دخول مخالفيهم في الجنة".
فبعد أن اعترف المجلسي أن الرواية دالة على سوء أدب زرارة مع الإمام الباقر، حاول الاعتذار لفعله، وذكر جملة من الاحتمالات.
ومن باب الإلزام: يمكن أن يقال كذلك أن ما صدر من عمر رضي الله عنه:
(كان هذا من طبعه وسجيته، ولم يمكنه ضبط نفسه).
أو نقول مثلا أن هذا كان (لشدة تصلبه في الدين).
أم أن هذه التبريرات حكراً على أصحاب الأئمة دون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وقال المازندراني أيضًا:" قال زرارة: "فارتفع صوت أبي جعفر (عليه السلام) وصوتي حتى يكاد يسمعه من على باب الدار"، دل على سوء أدب زرارة وانحرافه. والحق أنه من أفاضل أصحابنا أنه منزه عن مثل ذلك، وكأن قوله هذا كان قبل استقراره على المذهب الصحيح، أو كان قصده معرفة كيفية المناظرة في هذا المطلب وتحصيل المهارة فيه؛ ا ليناظر مع الخوارج وأضرابهم، ورأى أن المبالغة فيها لا تسوؤه (عليه السلام) بل تعجبه، والله يعلم".
ويلاحظ أن المازندراني اعترف بقلة أدب زرارة وزاد على ذلك انحرافه، لكنه كسابقه حاول الترقيع لفعله، وإيجاد مخرج له ولو بالتكلف.
وقد علق محقق الكتاب الشعراني على هذا الموضع قائلا: "قوله "على سوء أدب زرارة وانحرافه"، أما سوء الأدب فهو كذلك، وأما الانحراف فلا يدل كلامه عليه إذ رُبَّ محب يطيش فيخرج عن الأدب لاعن الحب، وليس كل أحد معصومًا عن الزلل. أما رأيت ولدًا برًا بوالديه قد يتفق عند الغضب أن يخشن الكلام ويهجر الوالد، ثم يندم من قريب ويعتذر. وروي من ابن عباس أشد من ذلك بالنسبة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان تابعًا وليًّا له من أول عمره إلى آخره، بعد ذاك العتاب وقبله، بل يدل هذا الحديث على أن زرارة مفرطٌ في الولاية، مبالغٌ فيه، زائدًا متجاوزًا عن الحد الذي كان يرضى به الإمام (عليه السلام)، وكان يرى أن كل متخلف عن أهل البيت كافر وردعه عنه الإمام (عليه السلام) بأن المستضعفين من الضلال في الجنة".
فالمحقق وإن نازع في دلالة الحديث على انحراف زرارة، لكنه لم يجد بدًا من الاعتراف بقلة أدبه، لكنه كسابقيه حاول التبرير لفعل زرارة، والعجيب أنه جعل قلة الأدب هذه دليلاً على المدح وعلامة على فرط المحبة والولاية لأهل البيت.
وما أجمل ما قال: "وليس كل أحد معصوما عن الزلل"؛ وهذا عين ما نقوله في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما المانع أن يقولوا بمثل هذا في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟
والحمد الله رب العالمين
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لتحميل الملف pdf