من الشبهات التي أثارها القوم عن أم المؤمنين رضي الله عنها: زعمهم أنها اغتسلت أمام الرجال، وحاشاها! قال عبد الصمد شاكر: «عن أبي سلمة قال: دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة، فسألها أخوها عن غسل النبي ، فدعت بإناء -نحوًا من صاع- فاغتَسلَت وأفاضت على رأسها، وبيننا وبينها حجاب.
أقول: مع فرض الحجاب بينها وبينهما يصبح غسلها لغوًا لا فائدة فيه، وعائشة عاقلة لا تفعل ما يضحك منه العقلاء!»([1]).
وجاء في موسوعة الأسئلة العقائدية التابعة لمكتب السيستاني الاستنكار بقولهم: «هل يعقل أن يصدر هذا الفعل من امرأة، يفترض أن تكون عنوانًا للعفَّة والأخلاق، وقدوةً حسنةً للمؤمنات، بحكم كونها أُمَّهن؟! فماذا ترون يا سادة يا كرام، فيمن يرمي نبيَّكم بهذا الكلام؟»([2]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: صحة الأثر.
الحديث رواه الشيخان من طريق أبي بكر بن حفص قال: سمعت أبا سلمة يقول: «دَخَلْتُ أَنا وَأَخُو عَائِشَة عَلَى عَائِشَة، فَسَأَلَهَا أَخُوهَا عَن غُسْلِ النبِيّ ق، فَدَعَتْ بِإِناءٍ -نحْوًا مِن صَاعٍ- فَاغْتَسَلَتْ، وَأَفَاضَتْ عَلَى رَأْسِهَا، وَبَيْننا وَبَيْنهَا حِجَابٌ»([3]).
والرجلان كلاهما مَحرم لعائشة ، فأبو سلمة راوي الحديث هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ابن أخت عَائِشَة من الرضاعة، أرضعته أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق ، فعَائِشَة خالته، والآخر هو أخوها من الرضاعة كما في الحديث، فكلا الرجلين من محارمها .
ثانيًا: وجود الحجاب بينهم يدرأ أي شبهة.
الأثر صريحٌ في جعلها الحجاب بينها وبينهما؛ ففي لفظ البخاري: «وبيننا وبينها حجاب»، وفي لفظ مسلم: «وبيننا وبينها ستر».
ولا غرابة في اغتسالها في الغرفة نفسِها، فالمعروف أنهم كانوا في ذلك الوقت يغتسلون داخل البيوت، وإلا فأين سيغتسلون؟ ويتخذون لذلك آلةً تسمى (الْمِخْضَبَ) تكون من النحاس غالبًا، يجلس الشخص فيها يرخي ستارة من حوله ويغتسل.
وفي هذه الحالة لا حرج من وجود غيره معه في نفس الغرفة، ويشهد لهذا ما في الحديث المشهور، وفيه: «دخول أم هانئ بنت أبي طالب على النبي ق وهو يغتسل وفاطمة بنته ل تستره بثوب»([4]).
ثالثًا: الحديث تعليم لأمر شرعي.
أرادت عائشة أن تعلمهما الاغتسال بشكل أقرب ما يكون إلى المشاهدة، وإن كانا لا يريانها؛ لأن بينها وبينهما حجابًا.
قال النووي: «وَفِي هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ عَائِشَةُ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّعْلِيمِ بِالْوَصْفِ بِالْفِعْلِ، فَإِنهُ أَوْقَعُ فِي النفْسِ مِن الْقَوْلِ، وَيَثْبُتُ فِي الْحِفْظِ مَا لا يثبت بِالْقَوْلِ»([5]).
وقد أرادت أم المؤمنين أن تثبت لهما إمكان الاغتسال بالصاع ونحوه، وكيفية غسل النبيّ ق بالطريقة العملية؛ لذلك أخرج البخاري الحديث في (باب الغسل بالصاع ونحوه)، ومسلم في (باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد في حالة واحدة، وغسل أحدهما بفضل الآخر)، وفعلها امتثالًا لقول الله تعالى: [وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا] {الأحزاب:34}.
رابعًا: إذا كان الاغتسال من وراء حجاب مستنكرًا، فعندهم ما هو أعظم.
إذا كان هذا الأمر مستنكَرًا عند الرافضة مع أنها كانت من وراء ستر ومع محارمها، فماذا نفعل بما ورد في كتبهم من أن الأجانب كانوا يرون من فاطمة ل ما لا يجوز رؤيته إلا للمَحرم؟!
فعن أبي عبد الله قال: «بعث رسول الله -صلى الله عليه وآله- إلى فاطمة بمكيال فيه تمر مع أبي ذر، قال أبو ذر: فأتيت الباب، وقلت: السلام عليكم، فلم يجبني أحد، فظننت أن فاطمة بحال الرحى، فلم تسمع، ففتحت الباب، وإذا فاطمة نائمةٌ والحسين يرتضع، والرَّحى تدور»([6]).
فهذا أبو ذر ا -حاشاه- دخل بيت فاطمة دون إذن، بل وجدها نائمةً وهي ترضع ولدها، وهذا اطلاع على عورة لا يجوز له رؤيتها قطعًا.
ورُوِي نحوُ هذا عن عمار أيضًا؛ فعن أبي جعفر قال: «بعث رسول الله -صلى الله عليه وآله- عمارًا ليدعو عليًّا . قال: فجاء إلى بابه فوجده مفتوحًا، فجعل يقول: أين أبو الحسن؟ قال: فصوَّت عمار أصواتًا وليس يجيبه أحد، وسمع صوت رحًى تدور، فظن عمار أن ما يمنعهم من إجابته هو صوت الرحى، فقال: إنما أنا رسولُ رسولِ الله -صلى الله عليه وآله-، وإنما هي ابنته، قال: ففتحت الباب فدخلت، فإذا رحى تدور وليس يديرها أحد، وإذا فاطمة نائمة والحسين على ثديها قد نام معها»([7])، أليس هذا أولى بالإنكار يا مَن يدَّعي الفضيلة؟!.
اقرأ أيضا| زعمهم تكذيب البخاري لعائشة في بول النبي قائمًا
([1]) نظرة عابرة إلى الصحاح الستة، عبد الصمد شاكر (ص97).
([2]) موسوعة الأسئلة العقائديّة، مركز الأبحاث العقائدية (4/241).
([3]) صحيح البخاري (1/59)، صحيح مسلم (1/256).
([4]) صحيح البخاري (280)، صحيح مسلم (336).
([5]) شرح النووي على مسلم (4/4).
([6]) الكوثر في أحوال فاطمة بنت النبي الأعظم، محمد باقر الموسوي (3/27).
([7]) الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء(ع)، إسماعيل الأنصاري الزنجاني (9/367).
لتحميل الملف pdf