قالت الشيعة: إن النبي صلى الله عليه وسلم شك في عائشة رضي الله عنها لما خاض فيها المنافقون فقال: «يَا عَائِشَةُ، إِنهُ بَلَغَني عَنكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِن كُنتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ، وَإِن كُنتِ أَلْمَمْتِ بِذَنبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِن العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ»([1]).
يقول الشيعي محسن الخياط: «وبالجملة دلالة عامة الروايات على كون النبي في رَيبٍ من أمرها إلى نزول العذر مما لاريب فيه، وهذا مما يجلُّ عنه مقامه .. كيف وهو يقول: [ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12) ] {النور:12} فيوبِّخ المؤمنين والمؤمنات على إساءتهم الظن وعدم ردّهم ما سمعوه من الإفك؟ فمن لوازم الإيمان حسن الظن بالمؤمنين، والنبي أحقُّ مَن يتَّصف بذلك، ويتحرَّز من سوء الظن الذي من الإثم، وله مقام النبوة والعصمة الإلهية»([2]).
ويقول صباح البياتي: «إن كلام النبي يحمل في طيَّاته اتهامًا لعائشةَ، وهذا عجيب جدًّا؛ إذ كيف يتفق موقف النبي ق مع الآيات الكريمة التي تعيب على المؤمنين سوء ظنهم؟! وذلك في قوله تعالى: [ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12) ] {النور:12} فكيف فات النبي ذلك ولم يظن خيرًا؟!»([3]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: النبي لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه بالوحي:
فالأصل في هذه المسألة هو قوله تعالى: [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ] {النجم:3، 4}، وهو لا يعلم الغيب، قال تعالى: [قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ] {الأنعام:50} إلا ما جاءه من وحي ربه -تبارك وتعالى- كما في قوله سبحانه: [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ] {الجن:26، 27}.
فعدم علمه بالمسألة ليس دليلًا إلا على عدم معرفته بها لا أكثر.
قال الشيخ الشنقيطي: «وكان يقول لها: «يَا عَائِشَةُ، إِن كُنتِ قَدْ فَعَلْتِ شَيْئًا فَتُوبِي، فَإِن اللهَ يَتُوبُ عَلَيْكِ، وَإِن كُنتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ»، ولم يدر عن الحقيقة، حتى علمه الحكيم الخبير خالق السماوات والأرض الذي لا تخفى عليه خافية وقال له: [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ] {النور:11} الآيات العشر إلى قوله: [ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ] {النور:26} ولذا لما قالت لها أمُّها أم رومان: قومي إليه فاحمديه. قالت: والله لا أحمده، ولا أحمد اليوم إلا الله؛ لأنه هو الذي برأني.
وهذا نبي الله إبراهيم وهوَ مَن هوَ -صلوات الله وسلامه عليه-، جاء بتاريخ القرآن أنه ذبح عجلَهُ للملائكة يظن أنهم يأكلون، وتعب في إنضاجه، ولم يدر أن ضيوفه ملائكة؛ ولذا خاف منهم وأخبرهم بأنه خاف منهم وقالَ: [إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ] {الحجر:52} ولم يدر عنهم شيئًا حتى أخبروه، ولما جاءوا لنبي الله لوط: [سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ] {هود:77} فظن أنهم شباب يفعل فيهم قومه فاحشة اللواط، حتى جاءوه يدافعونه عن الباب ليدخلوا عليهم فيفعلوا بهم فاحشة اللواط، حتى قال ذلك الكلام المؤثر: [ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ] {هود:80} حتى أعلمه جبريل أنهم ملائكة الله: [إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ] {هود:81} فعند ذلك عَلِمَ.
وهذا نبي الله نوح مع جلالته وعظمة رتبته في الأنبياء من أولي العزم قال: [رَبِّ إِنَّ ٱبْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَٰكِمِينَ] {هود:45} كان يظن أن ذلك الابن الكافر من الأهل الموعود بنجاتهم، ولم يعلم الحقيقة حتى قال له الله: [قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٍ فَلَا تَسْـَٔلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ إِنِّىٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّىٓ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْـَٔلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِۦ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِىٓ أَكُن مِّنَ ٱلْخَٰسِرِينَ] {هود:46، 47}.
وهذا نبي الله يعقوب قال الله فيه: [وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَٰهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ] {يوسف:68}، [وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ] {يوسف:84}، ولا يدري عن ولده يوسف شيئًا حتى كان يقول: [ٱذْهَبُوا۟ فَتَحَسَّسُوا۟ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيْـَٔسُوا۟ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَا يَاْيْـَٔسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَٰفِرُونَ] {يوسف:87}.
وهذا سليمان الذي سخر الله له الجن، والريح غدوها شهر ورواحها شهر، ما كان عنده علم عن مأرب (قريبًا من صنعاء باليمن) حتى جاءه الهدهد وتمدح عليه بما علم من علم جغرافية وتاريخ اليمن وسليمان يجهله، وكان سليمان توعد الهدهد في قوله: [لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابًۭا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُۥ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَٰنٍۢ مُّبِينٍۢ] {النمل:21} فلما جاء الهدهد معه بعض العلم عن تاريخ مأرب -جماعة بلقيس من سبأ- بعض تاريخ وجغرافية عنهم، صمد أمام سليمان ولم يرعه الوعيد الشديد من نبي ملك، فنسب الإحاطة إلى نفسه، ونفاها عن سليمان، وقال له: [فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍۢ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِۦ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍۢ بِنَبَإٍۢ يَقِينٍ {النمل:22} كما هو معروف.
وإنما أشرنا إلى هذا؛ لنبين أن العالم الحقيقي هو الله: [قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ] {النمل:65} فالملائكة والرسل لا يعلمون إلا ما علمهم الله، والله يعلم رسله وملائكته ما شاء من وحيه»([4]).
ثانيًا: دفاعه عن زوجته وتبرئتها قبل نزول براءتها
كان أقوى الخلق تبرئةً لأم المؤمنين لِمَا كان معه من القرائن، وقد أظهر لأصحابه بعض تلك القرائن، فقد استعذر الناس فيمن يتحدثون في هذا الأمر وهَمَّ أن يعاقبهم حتى قبل نزول البراءة من السماء: «فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ق مِن يَوْمِهِ، فَاسْتَعْذَرَ مِن عَبْدِ اللهِ بْن أُبَيٍّ ابْن سَلُولَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «مَن يَعْذُرُني مِن رَجُلٍ بَلَغَني أَذَاهُ فِي أَهْلِي؟ فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَان يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي»»([5]).
فقوله : «من يعذرني» أي من يقوم بعذري إن أنا كافأته على سوء صنيعه إن عاتبت أو عاقبت؟ فلا تلوموني على ذلك»([6]).
قال الحافظ: «قَوْلُهُ: فَاسْتَعْذَرَ مِن عَبْدِ اللهِ بْن أُبَيٍّ أَيْ: طَلَبَ مَن يَعْذِرُهُ مِنهُ، أَيْ: يُنصِفُهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُحْتَمَلُ أَن يَكُون مَعْناهُ: مَن يَقُومُ بِعُذْرِهِ فِيمَا رَمَى أَهْلِي بِهِ مِن الْمَكْرُوِهِ؟ وَمَن يَقُومُ بِعُذْرِي إِذَا عَاقَبْتُهُ عَلَى سُوءِ مَا صَدَرَ مِنهُ؟ وَرَجَّحَ النوَوِيُّ هَذَا الثَّاني، وَقِيلَ: معنى «من يعذرني» من ينصرني، والعزيزُ الناصِرُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: مَن يَنتَقِمُ لِي مِنهُ، وَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ سَعْدٍ: أَنا أَعْذِرُكَ مِنهُ»([7]).
فهذه تبرئة واضحة، ولو ظن النبي ق بأهله ظن سوء -عياذًا بالله- لما طلب النصرة من رجل يقول حقًّا! ومن تلك القرائن أنه أقر سعد بن معاذ في قوله: «أَنا يَا رَسُولَ اللهِ أَعْذِرُكَ، فَإِن كَان مِن الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنقَهُ، وَإِن كَان مِن إِخْوَاننا مِن الخَزْرَجِ أَمَرْتَنا فَفَعَلْنا أَمْرَكَ»([8])، فإقرار النبي سعدًا على قتل من رمى أهله، دليل على أنه ما أساء الظن قطُّ.
وهنا ملمح ينبغي الإشارة إليه: وهو أن النبي أراد أن يعاقب من أشاع هذا الإفكَ وتولى كبْرَه حتى قبل نزولِ البراءة، واعتبر ذلك سبًّا لأهله، وأن من سبَّ أهله استحق العقوبة، وزوجته عائشة ل هي الأهل في هذا الموضع بلا ريب، فمن سبَّها استحق العقوبة بنص كلام رسول الله .
ثالثًا: النبي هو المقصود بالأذى، وزوجته هي المرمية به، فلا يصح أن يشهد لنفسه.
قال ابن القيم: «فَإِن رَسُولَ اللهِ ق كَان هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْأَذَى، وَالَّتِي رُمِيَتْ زَوْجَتُهُ فَلَمْ يَكُن يَلِيقُ بِهِ أَن يَشْهَدَ بِبَرَاءَتِهَا مَعَ عِلْمِهِ أَوْ ظَنهِ الظَّن الْمُقَارِبَ لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَتِهَا، وَلَمْ يَظُن بِهَا سُوءًا قَطُّ وَحَاشَاهُ وَحَاشَاهَا، وَلِذَلِكَ لَمَّا اسْتَعْذَرَ مِن أَهْلِ الْإِفْكِ قَالَ: «مَن يَعْذِرُني فِي رَجُلٍ بَلَغَني أَذَاهُ فِي أَهْلِي؟ وَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا، وَمَا كَان يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي»، فَكَان عِندَهُ مِن الْقَرَائِن الَّتِي تَشْهَدُ بِبَرَاءَةِ الصِّدِّيقَةِ أَكْثَرَ مِمَّا عِندَ الْمُؤْمِنين، وَلَكِن لِكَمَالِ صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَرِفْقِهِ وَحُسْن ظَنهِ بِرَبِّهِ وَثِقَتِهِ بِهِ، وَفَّى مَقَامَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَحُسْن الظَّن بِاللهِ حَقَّهُ حَتَّى جَاءَهُ الْوَحْيُ بِمَا أَقَرَّ عَيْنهُ، وَسَرَّ قَلْبَهُ وَعَظَّمَ قَدْرَهُ وَظَهَرَ لِأُمَّتِهِ احْتِفَالُ رَبِّهِ بِهِ وَاعْتِناؤُهُ بِشَأْنهِ»([9]).
رابعًا: الحكمة من تأخر نزول براءتها
الحِكَم التي كانت في تأخُّر الوحي وعدم تصريح النبي ق بالبراءةِ كثيرة، وقد جمعها ابن القيم في كتابهِ زاد المعاد فقال: «فَإِن قِيلَ: فَمَا بَالُ رَسُولِ اللهِ تَوَقَّفَ فِي أَمْرِهَا، وَسَأَلَ عَنهَا وَبَحَثَ وَاسْتَشَارَ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِاللهِ وَبِمَنزِلَتِهِ عِندَهُ وَبِمَا يَلِيقُ بِهِ؟ وَهَلَّا قَالَ: سُبْحَٰنَكَ هَٰذَا بُهْتَٰنٌ عَظِيمٌ] {النور:16} كَمَا قَالَهُ فُضَلَاءُ الصَّحَابَةِ؟
فَالْجَوَابُ:
- أَن هَذَا مِن تَمَامِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي جَعَلَ اللهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ سَبَبًا لَهَا، وَامْتِحَانا وَابْتِلَاءً لِرَسُولِهِ ق وَلِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَرْفَعَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ أَقْوَامًا وَيَضَعَ بِهَا آخَرِين، وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِين اهْتَدَوْا هُدًى وَإِيمَانا، وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِين إِلَّا خَسَارًا، وَاقْتَضَى تَمَامُ الِامْتِحَان وَالِابْتِلَاءِ أَن حُبِسَ عَن رَسُولِ اللهِ ق الْوَحْيُ شَهْرًا فِي شَأْنهَا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لِتَتِمَّ حِكْمَتُهُ الَّتِي قَدَّرَهَا وَقَضَاهَا، وَتَظْهَرَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَيَزْدَادَ الْمُؤْمِنون الصَّادِقُون إِيمَانا وَثَبَاتًا عَلَى الْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَحُسْن الظَّن بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَالصِّدِّيقِين مِن عِبَادِهِ، وَيَزْدَادَ الْمُنافِقُون إِفْكًا وَنفَاقًا، وَيُظْهِرَ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنين سَرَائِرَهُمْ، وَلِتَتِمَّ الْعُبُودِيَّةُ الْمُرَادَةُ مِن الصِّدِّيقَةِ وَأَبَوَيْهَا، وَتَتِمَّ نعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَلِتَشْتَدَّ الْفَاقَةُ وَالرَّغْبَةُ مِنهَا وَمِن أَبَوَيْهَا، وَالِافْتِقَارُ إِلَى اللهِ وَالذُّلُّ لَهُ وَحُسْن الظَّن بِهِ وَالرَّجَاءُ لَهُ، وَلِيَنقَطِعَ رَجَاؤُهَا مِن الْمَخْلُوقِين، وَتَيْأَسَ مِن حُصُولِ النصْرَةِ وَالْفَرَجِ عَلَى يَدِ أَحَدٍ مِن الْخَلْقِ، وَلِهَذَا وَفَّتْ هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ لَمَّا «قَالَ لَهَا أَبَوَاهَا: قُومِي إِلَيْهِ، وَقَدْ أَنزَلَ اللهُ عَلَيْهِ بَرَاءَتَهَا، فَقَالَتْ: (وَاللهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إلَّا اللهَ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ بَرَاءَتِي).
- وَأَيْضًا فَكَان مِن حِكْمَةِ حَبْسِ الْوَحْي شَهْرًا، أَن الْقَضِيّةَ مُحِّصَتْ وَتَمَحَّضَتْ، وَاسْتَشْرَفَتْ قُلُوبَ الْمُؤْمِنين أَعْظَمَ اسْتِشْرَافٍ إِلَى مَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَى رَسُولِهِ فِيهَا، وَتَطَلَّعَتْ إِلَى ذَلِكَ غَايَةَ التَّطَلُّعِ، فَوَافَى الْوَحْيُ أَحْوَجَ مَا كَان إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ق وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَالصِّدِّيقُ وَأَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ وَالْمُؤْمِنون، فَوَرَدَ عَلَيْهِمْ وُرُودَ الْغَيْثِ عَلَى الْأَرْضِ أَحْوَجَ مَا كَانتْ إلَيْهِ، فَوَقَعَ مِنهُمْ أَعْظَمَ مَوْقِعٍ وَأَلْطَفَهُ، وَسُرُّوا بِهِ أَتَمَّ السُّرُورِ، وَحَصَلَ لَهُمْ بِهِ غَايَةُ الْهَناءِ، فَلَوْ أَطْلَعَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ مِن أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَأَنزَلَ الْوَحْيَ عَلَى الْفَوْرِ بِذَلِكَ لَفَاتَتْ هَذِهِ الْحِكَمُ، وَأَضْعَافُهَا بَلْ أَضْعَافُ أَضْعَافِهَا.
- إظْهَارُ اللهِ مَنزِلَتَهُ ق وَأَهْلَ بَيْتِهِ عِندَهُ، وَأَيْضًا فَإِن اللهَ سُبْحَانهُ أَحَبَّ أَن يُظْهِرَ مَنزِلَةَ رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عِندَهُ وَكَرَامَتَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَن يُخْرِجَ رَسُولَهُ عَن هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَيَتَوَلَّى هُوَ بِنفْسِهِ الدِّفَاعَ وَالْمُنافَحَةَ عَنهُ وَالرَّدَّ عَلَى أَعْدَائِهِ وَذَمِّهِمْ وَعَيْبِهِمْ بِأَمْرٍ لَا يَكُون لَهُ فِيهِ عَمَلٌ وَلَا يُنسَبُ إلَيْهِ، بَلْ يَكُون هُوَ وَحْدَهُ الْمُتَوَلِّيَ لِذَلِكَ الثَّائِرَ لِرَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ»([10]).
خامسًا: لو شكَّ فيها النبي لطلقها:
ولو شك النبي ق فيها ولو للحظة لما جاز له أن يبقيها زوجةً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَلِهَذَا لَمَّا قِيلَ فِيهَا مَا قِيلَ وَصَارَتْ شُبهةً، اسْتَشَارَ النبِيُّ ق مَن اسْتَشَارَهُ فِي طَلَاقِهَا قَبْلَ أَن تَنزِلَ بَرَاءَتُها؛ إذْ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَن تَكُون امْرَأَتُهُ غَيْرَ طَيِّبَةٍ وَقَدْ رُوِيَ «أَنهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنةَ دَيُّوثٌ» وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ السُّوءَ فِي أَهْلِهِ، وَلِهَذَا كَانتْ الْغَيْرَةُ عَلَى الزِّنا مِمَّا يُحِبُّهَا اللهُ وَأَمَرَ بِهَا، حَتَّى قَالَ النبِيُّ : «أَتَعْجَبُون مِن غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لَأَنا أَغَيْرُ مِنهُ وَاللهُ أَغَيْرُ مِني؛ مِن أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَن»»([11]).
سادسًا: علماء الشيعة يقررون امتناع هذا على زوجات الأنبياء وعدم وقوعه:
سئل الحلي: «ما يقول سيدنا في عصمة نساء الأنبياء أهي واجبة في حقهن فلا يجوز ذلك عليهن، أم يجوز ذلك ولم يقع منهن؟ إذ لو كان لا يجوز عليهن لكان رسول الله ص لَمَّا قذفت زوجته أخبر بأن ذلك لا يجوز عليها، ولكنه بقي أيامًا والناس يخوضون في ذلك حتى نزل الوحي ببراءتها.
الجواب: لم يشترط أحد من العلماء عصمة النساء اللواتي للأنبياء عن الزنا، لكن اللائق بعصمة النبوة نزاهتهن عن ذلك وسلامتهن منه، ولم يقع من واحدة منهن ذلك»([12]).
وقال الخواجوئي: «فإن قلتَ: هل تجب عصمة نساء الأنبياء من الزنا فلا يجوز ذلك عليهن، أم يجوز ولكنه لم يقع منهن؟
قلتُ: لو لم يجز لكان على رسول الله -صلى الله عليه وآله- حين قُذفت زوجته أن يخبر بأنه لا يجوز عليها، ولكنه بقي أيَّامًا والناس يخوضون فيه إلى أن نزل الوحي ببراءتها، وكيف لا يجوز وقد قال الله تعالى: [يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ] {الأحزاب:30} إلى قوله: [لَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ] {الأحزاب:32، 33} الآيات؟ ولذلك لم يشترط أحد من العلماء عصمتهن عنه، ولكن اللائقَ بمنصب النبوَّة نزاهتهن عنه وسلامتهن منه، ولم يقع من واحدة منهن»([13]).
اقرأ أيضا| شبهة اتهام أم المؤمنين عائشة بأنها كانت تستضيف الرجال الأجانب في بيتها
([1]) صحيح البخاري (5/116).
([2]) الإفصاح عن المتواري من أحاديث المسانيد والسنن والصحاح، محسن الخياط (1/175).
([3]) لا تخونوا الله والرسول، صباح البياتي (ص132).
([4]) العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (3/603 -605).
([5]) صحيح البخاري (3/173).
([6]) تفسير الخازن (3/287).
([7]) فتح الباري، ابن حجر (8/471).
([8]) صحيح البخاري (5/116).
([9]) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/235).
([10]) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/234 -235).
([11]) مجموع الفتاوى (15/323).
([12]) أجوبة المسائل الْمُهَنائية، الحلي (ص122).
([13]) جامع الشتات، الخواجوئي (ص38).
لتحميل الملف pdf