أخرج الإمام البخاري عَن عَائِشَةَ أنها قَالَتْ: «كُنتُ أَغَارُ عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنفُسَهُن لِرَسُولِ اللهِ، وَأَقُولُ أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نفْسَهَا؟! فَلَمَّا أَنزَلَ اللهُ تَعَالَى: [تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ ۖ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ۚ] {الأحزاب:51} قُلْتُ: مَا أُرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ»([1]).
يقول جعفر مرتضى العاملي معلقًا: «في هذا القول طعن بمنشأ الوحي؛ إذ إن منشأه هوى نفس الرسول مَعاذ الله، بل وطعن في منزلة الوحي، تعالى شأنه عن ذلك»([2]).
ويقول فارس حسون: «وأنت ترى أن ذلك جرأة متناهية، فإن نسبة المسارعة إلى الله تعالى، والهوى إلى نبيه ق قول من لا يرعى لهما حرمة، ولا يرى لهما إلًّا ولا ذمة»([3]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: الطاعنون إما أهدى وأتقى وأورع من النبي ق، أو أنهم جهلة يكذبون.
طعن الرافضة هنا في أم المؤمنين بالأصالة طعن في رسول الله؛ إذ هُم بذلك أفهم منه، ففهموا ما لم يفهمه هو، فأنكروا هم، وسكت هو.
هذه العبارة التي قالتها أم المؤمنينإنما هي دليل المحبة والغيرة عليه، وهي في غاية المدح له والثناء عليه، فالعبارة تعني: «أن الله موجِد لِمَا تحب وترضى».
وقال ابن حجر: «قَوْلُها: (مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ) أَيْ: مَا أَرَى اللهَ إِلَّا مُوجِدًا لِمَا تُرِيدُ بِلَا تَأْخِيرٍ، مُنزِلًا لِمَا تُحِبُّ وَتَخْتَارُ»([4]).
وقال الإمام العيني: «قَوْلها: (إِلَّا يُسَارع فِي هَوَاك) أَي: فِي الَّذِي تحبه، يَعْني: مَا أرى إِلَّا أَن الله تعالى موجد لمرادك بِلَا تَأْخِير، مُنزِلًا لما تحبه وترضى.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا قَول أبرزه الدَّلال والغيرة، وَهُوَ من نوع قَوْلهَا مَا أحمدكما، وَمَا أَحْمد إِلَّا الله، وَإِلَّا فإضافة الْهوى إِلَى النبِي ق لَا يُحملُ على ظَاهره؛ لِأَنهُ لَا ينطق عَن الْهوى، وَلَا يفعل بالهوى، وَلَو قَالَت: إِلَى مرضاتك لَكَان أليق، وَلَكِن الْغيرَة تغتفر لأَجلهَا إِطْلَاق مثل ذَلِك.
قلت: الَّذِي ذكرته أحسن من هَذَا على مَا لَا يخفى»([5]).
فهذا غاية المدح للنبي ، وأن الله تعالى يفعل لنبيه ما يحبه؛ إذ إن هواه هو بعينه الموافقة لشرعه ، فقد ثبت وصح عنه من حديث أنس ا أنه قال: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِن الدُّنيَا النسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْني فِي الصَّلَاةِ»([6]).
فهذا هو هواه : النساء، وقد أباحهن الله للمؤمنين بالنكاح، وحبب ذلك إلى قلوبهم، ورغبهم فيه، ورتب المثوبة عليه، والطيب الذي هو من أحسن فطرة الناس، وقرةُ عينه جُعلت في الصلاة، فمتى كان هواه مخالفًا للشريعة الغراء؟!
ثانيًا: إن كان نسبةُ الهوى للنبي منقصةً ومذمةً، فقد نسبتها الرافضة لله سبحانه:
إذا كانت نسبة الهوى للنبي مستلزمًا للطعن في منشأ الوحي كما ادعى بعض الروافض، إذًا فقد طعنه الرافضة في منزِّل الوحي نفسه؛ إذ نسبوا له الهوى.
فقد أخرج الكليني بسنده عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر قال: «إن الله يقول: (وعزتي وجلالي، وعظمتي وعلوي، وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي على هوى نفسه إلا كففت عليه ضيعته، وضمنت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر)»([7]).
فهل سنرى الرافضة ينبرون للطعن في الكليني ورواة هذا الحديث، ويشنعون عليه على الأقل على قدر تشنيعهم وتشغيبهم على أم المؤمنين؟ أم ستجدهم ينافحون ويناضلون، ويؤولون الحديث بكل أنواع التأويلات؟!
فكل ما يقولونه في هذا الخبر هو عين مقالتنا في خبر أم المؤمنين عائشة، وإن كانت مقالتها أهون من مقالتهم على أصل تخريج مشنعيهم!
ثالثًا: وأما من اعترض على قول أم المؤمنين عائشة في قولها للنبي: «ربك» فنقول لهم: هذا جهل عميق مخزٍ بلغة القرآن ولغة العرب، فعليكم أن تعترضوا على رسل الله من الملائكة في قولهم لسارة زوجة الخليل إبراهيم في قوله تعالى: [فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ] {الذاريات:29، 30} فكل طعن يكيله الطاعنون في أم المؤمنين هنا فهم بذلك قائلون به في رسل الله من الملائكة، وكذلك في وحي القرآن الكريم وعينه، وكل تأويل يتذرعون به هو عين تأويلنا لمقالة أم المؤمنين عائشة ل.
رابعًا: اعتراض الرافضة على صفة ثابتة في الكتاب والسنة ومورثهم الروائي
استقباح الشيعي حسون قولها بأنها «نسبت المسارعة إلى الله» في غاية الجهل والجهالة؛ إذ إن السرعة صفة ثابتة لله في موروث الرافضة الروائي.
فقد روى المجلسي عن أمير المؤمنين قال: «من ضاق صدره لم يصبر على أداء حق من كسل لم يؤد حق الله من عظم أوامر الله أجاب سؤاله، من تنزه عن حرمات الله سارع إليه»([8]).
بل والرواية نفسها التي يعترضون عليها جاءت في كتبهم، لكن بزيادة ترد عليهم شغائِبَهم؛ إذ أثبت فيها النبي ق هذه الصفة لله: «... فقالت عائشة: ما أرى الله تعالى إلا يسارع في هواك، فقال رسول الله، وإنك إن أطعت الله سارع في هواك»([9]).
وفي رواية عن الإمام علي: «من تنزه عن حرمات الله سارع إليه عفو الله»([10]).
والشيعة يقولون بأن صفات الله عين ذاته، فإذا كان الذي سارع هو عفو الله فهذا شرك؛ للزومه تعدد القدماء، أو أن يقولوا بأن الذي سارع هو الله بذاته لالتزام صفاته عين ذاته، فيحصل لنا المطلوب!
والصحيح: أن صفة السرعة صفة فعلية ثابته لله على الوجه اللائق به ثابتة بالكتاب والسنة، كما في قوله تعالى: [أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ] {البقرة:202}، وقوله تعالى: [إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيم] {الأنعام:165}.
وفي صحيح مسلم عن أبي هُرَيْرَةَ عَن رَسُولِ اللهِ فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «إِن اللهَ قَالَ: إِذَا تَلَقَّاني عَبْدِي بِشِبْرٍ تَلَقَّيْتُهُ بِذِرَاعٍ، وَإِذَا تَلَقَّاني بِذِرَاعٍ تَلَقَّيْتُهُ بِبَاعٍ، وَإِذَا تَلَقَّاني بِبَاعٍ أَتَيْتُهُ بِأَسْرَعَ».
اقرأ أيضا| زعمهم أن أمومة أمهات المؤمنين خاصة بالرجال
([1]) صحيح البخاري (2/117).
([2]) أحاديث أم المؤمنين عائشة، مرتضى العسكري (1/49).
([3]) الروض النضير في معنى حديث الغدير، فارس حسون كريم (ص299).
([4]) فتح الباري، ابن حجر (8/526).
قال القاضي عياض: «قَوْله: (فهَوِيَ رَسُول الله أَي: أحبه بِكَسْر (الْوَاو)، وَاسْتَحْسنهُ، والهوى: الْمحبَّة، وَمِنه قَوْله: (أَن رَبك يُسَارع فِي هَوَاك»(. مشارق الأنوار على صحاح الآثار، القاضي عياض (2/273).
وقال النووي: «قَوْلُهَا: (مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِن أَرَى، وَمَعْناهُ: يُخَفِّفُ عَنكَ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْكَ فِي الْأُمُورِ؛ وَلِهَذَا خَيَّرَكَ». شرح النووي على مسلم (10/49-50).
([5]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني (20/109).
([6]) سنن النسائي (8/149) (ح8831).
([7]) الكافي، الكليني (2/137)، وصححه المجلسي في مرآة العقول (8/319).
([8]) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ع، المجلسي (75/90).
([9]) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ع، المجلسي (22/181).
([10]) ميزان الحكمة، الريشهري (3/2019).
لتحميل الملف pdf