من الشبهات التي أُثيرت حول أم المؤمنين، ما رُوي من قولها لرسول الله: «ألست تزعم أنك رسول الله؟ أفلا عدلت؟».
قال لطف الله الصافي تعليقًا على هذا الحديث: «أَفَيُقاس من يرد على النبي بهذه الكلمة بغيرها من أمهات المؤمنين اللاتي لم يحفظ عنهن التاريخ دون ذلك؟ أتعرف في النساء الصحابيات من المهاجرات والأنصار من خاطب الرسول الأعظم ص بمثل هذا الخطاب؟»([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: فساد الدليل
الحديث أخرجه أبو يعلَى في (مسنده) من طريق سلمة بن الفضل، عَن مُحَمَّدِ بْن إِسْحَاقَ، عَن يَحْيَى بْن عَبَّادِ بْن عَبْدِ اللهِ بْن الزُّبَيْرِ، عَن أَبِيهِ، عَن عَائِشَةَ أَنهَا قَالَتْ: «وَكَان مَتَاعِي فِيهِ خَفٌّ، وَكَان عَلَى جَمَلٍ ناجٍ، وَكَان مَتَاعُ صَفِيَّةَ فِيهِ ثِقَلٌ، وَكَان عَلَى جَمَلٍ ثَقَالٍ بَطِيءٍ يَتَبَطَّأُ بِالرَّكْبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ق: «حَوِّلُوا مَتَاعَ عَائِشَةَ عَلَى جَمَلِ صَفِيَّةَ، وَحَوِّلُوا مَتَاعَ صَفِيَّةَ عَلَى جَمَلِ عَائِشَةَ حَتَّى يَمْضِيَ الرَّكْبُ».
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ: يَا لَعِبَادِ اللهِ! غَلَبَتْنا هَذِهِ الْيَهُودِيَّةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ .
قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ق: «يَا أُمَّ عَبْدِ الله؛ إِن مَتَاعَكِ كَان فِيهِ خَفٌّ، وَكَان مَتَاعُ صَفِيَّةَ فِيهِ ثِقَلٌ، فَأَبْطَأَ بِالرَّكْبِ، فَحَوَّلْنا مَتَاعَهَا عَلَى بَعِيرِكِ، وَحَوَّلْنا مَتَاعَكِ عَلَى بَعِيرِهَا».
قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنكَ رَسُولُ اللهِ؟
قَالَتْ: فَتَبَسَّمَ.
قَالَ: «أَوَفِي شَكٍّ أَنتِ يَا أُمَّ عَبْدِ اللهِ؟».
قَالَتْ: قُلْتُ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنكَ رَسُولُ اللهِ؟ أَفَلَا عَدَلْتَ؟ وَسَمِعَني أَبُو بَكْرٍ وَكَان فِيهِ غَرْبٌ -أَيْ: حِدَّةٌ- فَأَقْبَلَ عَلَيَّ، فَلَطَمَ وَجْهِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ق: «مَهْلًا يَا أَبَا بَكْر»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَا سَمِعْتَ مَا قَالَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ق: «إِن الْغَيْرَى لَا تُبْصِرُ أَسْفَلَ الْوَادِي مِن أَعْلَاهُ»»([2]).
قلت: ضعيف.
فيه محمد بن إسحاق، وهو حسن الحديث إلا أنه مدلس، ويدلس عن الضعفاء والمجهولين، وقد عنعن هنا([3]).
وفيه سلمة بن الفضل الأبرش، وهو ضعيف، كثير الخطأ. قال ابن حبان: «يُخَالف ويخطئ»([4])، وقال ابن حجر: «صدوق كثير الخطأ»([5]).
ثانيًا: لفظة «زعم» ليست مقصورة الدلالة على الشك والريب.
ولو ثبت الحديث على سبيل التنزل لأمكن حمله على غير المتبادر إلى الذهن؛ وخاصة أن النبي لم ينكر عليها قولها، بل ما كان من فعله طيلة حواره معها إلا أنه كان يتبسم ودافع عنها لما لطمها أبو بكر الصديق، بل وذكر النبي ق عذرها الذي عذرها به، فما بال الرافضة مَلكِّيُون أكثر من الملِك؟!
وكلمة (زعم) ليست مقصورة الدلالة على الشك والريب؛ إذ تستعملها العرب على معنى قال وأخبر، وكذلك بمعنى القول المحقق، ويدل على ذلك ما جاء في (صحيح مسلم) من حديث أَنسِ بْن مَالِكٍ قَالَ: «نهِينا أَن نسْأَلَ رَسُولَ اللهِ ق عَن شَيْءٍ، فَكَان يُعْجِبُنا أَن يَجِيءَ الرَّجُلُ مِن أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلَهُ وَنحْن نسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِن أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَانا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنا أَنكَ تَزْعُمُ أَن اللهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ: «صَدَقَ»»([6]).
قال النووي: «فَقَوْلُهُ: (زَعَمَ وَتَزْعُمُ)، مَعَ تَصْدِيقِ رَسُولِ اللهِ إِيَّاه: دَلِيلٌ عَلَى أَن (زَعَمَ) لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْكَذِبِ وَالْقَوْلِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، بَلْ يَكُون أَيْضًا فِي الْقَوْلِ المحقِّقِ، والصدقِ الذِي لا شَكَّ فِيهِ، وَقَدْ جَاءَ مِن هَذَا كَثِيرٌ فِي الْأَحَادِيثِ... وَقَدْ أَكْثَرَ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ إِمَامُ الْعَرَبِيَّةِ، فِي كِتَابِهِ الَّذِي هُوَ إِمَامُ كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ، مِن قَوْلِهِ: زَعَمَ الْخَلِيلُ، زَعَمَ أَبُو الْخَطَّابِ؛ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْقَوْلَ الْمُحَقَّقَ، وَقَدْ نقَلَ ذَلِكَ جَمَاعَاتٌ مِن أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَنقَلَهُ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي شَرْحِ الْفَصِيحِ، عَن شَيْخِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٍ، عَن الْعُلَمَاءِ بِاللُّغَةِ مِن الْكُوفِيِّين وَالْبَصْرِيِّين»([7]).
وقال أيضًا: «ورُوِّينا في الحديث المرفوع عن رسول الله قال: زعم جبريل كذا، وروينا في مسند أبي عوانة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: زعمنا أن سهم ذي القربى لنا، فأبى علينا قومنا، أي: قلنا واعتقدنا.
ورُوِّينا في حديث ضمام بن ثعلبة أنه قال لرسول الله: «زعم رسولك أن علينا خمس صلوات في كل يوم وليلة، وزعم أن علينا الزكاة، وزعم كذا وكذا» الحديث... وزعم في كل هذا بمعنى: قال، وليس فيها تشكك، وقد أكثر سيبويه في كتابه الذي هو قدوة أهل العربية من قوله: زعم الخليل كذا، وزعم أبو الخطاب وهما شيخاه، ويعني: بزعم: قال»([8]).
ثالثًا: لو سلمنا بدلالتها مطلقًا على التشكيك للزمك إكفار زرارة
إن كان الزعم مطلقًا يراد به التشكيك والتكذيب، فهذا زرارة إذًا يشكك في صدق جعفر الصادق، فقد روى الكليني بسنده عن ابْن بُكَيْرٍ قَالَ: «سَأَلَ زُرَارَةُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عَن الصَّلَاةِ فِي الثَّعَالِبِ وَالْفَنكِ وَالسِّنجَابِ وَغَيْرِهِ مِن الْوَبَرِ، فَأَخْرَجَ كِتَابًا زَعَمَ أَنهُ إِمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ: أَن الصَّلَاةَ فِي وَبَرِ كُلِّ شَيْءٍ حَرَامٍ أَكْلُهُ، فَالصَّلَاةُ فِي وَبَرِهِ وَشَعْرِهِ وَجِلْدِهِ وَبَوْلِهِ وَرَوْثِهِ وَكُلِّ شَيْءٍ مِنهُ فَاسِدَةٌ، لَا تُقْبَلُ تِلْكَ الصَّلَاةُ حَتّى تُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ أَكْلَهُ»([9]).
فهل ستقول الرافضة إن زرارة شكك في صدق جعفر الصادق أو كذبه؟ أم المراد بالزعم عندهم معنى آخر؟
اقرأ أيضا| زعمهم أن من عصت الله وجب على الإمام تطليقها
([1]) صوت الحق ودعوة الصدق، لطف الله الصافي (ص53).
([2]) مسند أبي يعلى الموصلي (8/129).
([3]) قال ابن حجر: «محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني، صاحب المغازي، صدوق، مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم، وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما». طبقات المدلسين، ابن حجر (ص51).
([4]) الثقات، ابن حبان (8/287).
([5]) تقريب التهذيب، ابن حجر (ص2505)، والحديث ضعفه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (3/154)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/391)، وقال المعلمي اليماني في الأنوار الكاشفة (1/245): «حديثٌ منكر»، وضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (2985).
([6]) صحيح مسلم (1/41).
([7]) شرح صحيح مسلم، النووي (1/170).
([8]) تهذيب الأسماء واللغات، النووي (3/134).
([9]) الكافي، الكليني (6/392)، وحسنه المجلسي في المرآة (15/308).
لتحميل الملف pdf