قال الرافضي: «ومن تلك الأدلة ما رواه أحمد بن حنبل والبيهقي وابن هشام والطبري وابن كثير، عن ابن إسحاق بسنده، عن عائشة قالت: «والله ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء».
وحديثها هذا يشير إلى أن الدفن لم يكن في حجرتها، وإلا لكانت قد شهدته، أو علمت بمقدِّماته على الأقل، فهي تصرح بأنها لم تعلم بدفنه ق مطلقًا حتى فاجأها سماع صوت المساحي في آخر ليلة الأربعاء، الأمر الذي يعني أن حجرتها هي حجرةٌ أخرى غير التي دُفن فيها النبي، بَيْدَ أنها ليست ببعيدة عنها؛ حيث إن صوت المساحي التي تعمل يصل إليها.
ومفاد الحديث: يستبعد احتمال أن تكون حينذاك خارج حجرتها، ولذا لم تعلم حتى سمعت صوت المساحي؛ إذ الوقت كان «آخر الليل»، والمرأة في المجتمع لا تكون في غير مسكنها في ذلك الوقت المتأخر، كما أنه لا احتمال لِأَن تكون قد انتقلت إلى مسكن آخر مؤقتًا مثلًا؛ إذ ذلك لم يرد في شيء من الحديث والتاريخ، لا في شأنها ولا في شأن بقية أزواج النبي ق بعد استشهاده»([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: مكان قبره معروف بالتواتر والإجماع الذي لا نزاع فيه، يكفر منكره.
قالت أم المؤمنين عائشة : «فَلَمَّا كَان يَوْمِي، قَبَضَهُ اللهُ بَيْن سَحْرِي وَنحْرِي، وَدُفِن فِي بَيْتِي»([2]).
وقال ابن عبد البر: «وَلَا خِلَافَ بَيْن الْعُلَمَاءِ أَن رَسُولَ اللهِ دُفِن فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مِن بَيْتِهِ بَيْتِ عَائِشَةَ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ بُيُوتُهُ الْمَعْرُوفَةُ لِأَزْوَاجِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مَسْجِدِهِ، فَصَارَ قَبْرُهُ فِي الْمَسْجِدِ»([3]).
وقال ابن تيميَّة: «لَيْسَ فِي الْأَرْضِ قَبْرُ نبِيٍّ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ إلَّا قَبْرُ نبِيِّنا، وَمَا سِوَاهُ فَفِيهِ نزَاعٌ»([4]).
وقال ابن كثير: «قَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنهُ ق دُفِن فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ الَّتِي كَانتْ تَخْتَصُّ بِهَا شَرْقِيَّ مَسْجِدِهِ فِي الزَّاوِيَةِ الْغَرْبِيَّةِ الْقِبْلِيَّةِ مِن الْحُجْرَةِ، ثُمَّ دُفِن بَعْدَهُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ ب»([5]).
وقال العجلوني: «ويكْفُر منكر كون قبر نبينا في المدينة في المكان المخصوص، ولا يكفر منكر قبر نبي غيره بخصوصه حتى إبراهيم»([6]).
قال الآجُرِّي: «لَمْ يَخْتَلِفْ جَمِيعُ مَن شَمِلَهُ الْإِسْلَامُ، وَأَذَاقَهُ اللهُ الْكَرِيمُ طَعْمَ الْإِيمَان أَن أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ب دُفِنا مَعَ النبِيِّ ق فِي بَيْتِ عَائِشَةَ ل، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْأَخْبَارِ وَالْأَسَانيدِ الْمَرْوِيَّةِ: فُلَان عَن فُلَان، بَلْ هَذَا مِن الْأَمْرِ الْعَامِ الْمَشْهُورِ الَّذِي لَا يُنكِرُهُ عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ بِالْعِلْمِ، بَلْ يَسْتَغْني بِشُهْرَةِ دَفْنهِمَا مَعَ النبِيِّ ق عَن نقْلِ الْأَخْبَارِ.
وهذا معلوم بالتواتر قطعًا، قال الإمام الحميدي فيمن قال: أَشْهَدُ أَن مُحَمَّدَ بْن عَبْدِ اللهِ نبِيٌّ، وَلَكِن لَا أَدْرِي هُوَ الَّذِي قَبْرُهُ بِالْمَدِينةِ أَمْ لَا، فَقَالُ: «مَن قَالَ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ»([7])، وروى اللالكائي عن أحمد بن حنبل أنه قال: «مَن قَالَ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ»([8]).
ثانيًا: الدليل لا يدل على المطلوب!
الرواية ليس فيها ما يدل على دفنه ق خارج حجرتها، بل غاية ما أفادته الرواية أن نساء النبي لم يعلمن بدفنه إلا عند سماع صوت المساحي؛ لقولها: «والله ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي»، وذلك لانشغالهن بالبكاء على النبي كما ورد في الخبر الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده –واستدل به الرافضي للإشكال على أم المؤمنين ل بسنده عن يَحْيَى بْن عَبَّادِ بْن عَبْدِ اللهِ بْن الزُّبَيْرِ، عَن أَبِيهِ عَبَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: «مَاتَ رَسُولُ اللهِ بَيْن سَحْرِي وَنحْرِي وَفِي دَوْلَتِي، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا، فَمِن سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِني أَن رَسُولَ اللهِ قُبِضَ وَهُوَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ، وَقُمْتُ أَلْتَدِمُ مَعَ النسَاءِ، وَأَضْرِبُ وَجْهِي»([9]).
فهذه الرواية تدل على انشغال النساء بالبكاء على النبي، فهذا داع لانصراف انتباههن عن تجهيز الرجال لدفنه، فلم ينتبهن إلا على صوت المساحي([10]).
ومن الطبيعي ألا ينتبهن لمسألةِ الدفن إلا على سماع الصوت؛ وذلك لعدم انتشار المصابيح في ذلك الزمان، فقد صح عن أم المؤمنين عائشة أن بيتها لم يكن فيه مصباح، كما في رواية الشيخين من حديثها أَنهَا قَالَتْ: «كُنتُ أَنامُ بَيْن يَدَيْ رَسُولِ اللهِ وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَني فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ: وَالبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ»([11]).
وفي رواية للإمام أحمد: «قَالَتْ عَائِشَةُ: بَعَثَ إِلَيْنا آلُ أَبِي بَكْرٍ بِقَائِمَةِ شَاةٍ لَيْلًا، فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللهِ وَقَطَعْتُ، أَوْ أَمْسَكْتُ وَقَطَعَ، فَقَالَ الَّذِي تُحَدِّثُهُ: أَعَلَى غَيْرِ مِصْبَاحٍ؟ فَقَالَتْ: لَوْ كَان عِندَنا مِصْبَاحٌ لَائْتَدَمْنا بِهِ، إِن كَان لَيَأْتِي عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الشَّهْرُ مَا يَخْتَبِزُون خُبْزًا، وَلَا يَطْبُخُون قِدْرًا»([12]).
ففي هذا الظلام الحالك لا يكون هناك طريق للعلم بالدفن غير السماع، حتى ولو كانت في الحجرة نفسها.
ثالثًا: إقرار علماء الشيعة بدفنه النبي في الحجرة الشريفة
قال المجلسي: «وَقُبِضَ بِالْمَدِينةِ مَسْمُومًا يَوْمَ الِاثْنيْن لِلَيْلَتَيْن بَقِيَتَا مِن صَفَرٍ سَنةَ عَشَرَةٍ مِن الْهِجْرَةِ، وَهُوَ ابْن ثَلَاثٍ وَسِتِّين سَنةً، وَأُمُّهُ آمِنةُ بِنتُ وَهْبِ ابْن عَبْدِ مَنافِ بْن زُهْرَةَ بْن كِلَابِ بْن مُرَّةَ بْن كَعْبِ بْن لُؤَيِّ بْن غَالِبٍ، وَقَبْرُهُ بِالْمَدِينةِ فِي حُجْرَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا، وَكَان قَدْ أَسْكَنهَا فِي حَيَاتِهِ عَائِشَةَ بِنتَ أَبِي بَكْرِ بْن أَبِي قُحَافَةَ، فَلَمَّا قُبِضَ النبِيُّ ق اخْتَلَفَ أَهْلُ بَيْتِهِ وَمَن حَضَرَ مِن أَصْحَابِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنبَغِي أَن يُدْفَن فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُدْفَن بِالْبَقِيعِ، وَقَالَ آخَرُون: يُدْفَن فِي صَحْن الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنين: إِن اللهَ لَمْ يَقْبِضْ نبِيَّهُ إِلَّا فِي أَطْهَرِ الْبِقَاعِ، فَيَنبَغِي أَن يُدْفَن فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، فَاتَّفَقَتِ الْجَمَاعَةُ عَلَى قَوْلِهِ، وَدُفِن فِي حُجْرَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْناهُ»([13]).
وقال المفيد: «وقبره بالمدينة في حجرته التي توفي فيها، وكان قد أسكنها في حياته عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة...»([14]).
اقرأ أيضا| نداء عاجل للشيعة في بث مباشر لـ رامي عيسى (شاهد الآن)
([1]) الفاحشة، ياسر الحبيب (439 - 440).
([2]) صحيح البخاري (2/102).
([3]) الاستذكار (3/54).
([4]) مجموع الفتاوى (27/254).
([5]) البداية والنهاية، ط هجر (8/153).
([6]) كشف الخفاء (2/403).
([7]) السنة، عبد الله بن أحمد (1/194).
([8]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/1069).
([9]) مسند أحمد، ط الرسالة (43/368 -369).
([10]) وقد وردت رواية من طريق الواقدي فيها كذلك التصريح بانشغالهن بالبكاء على النبي، ونذكرها استئناسًا لا استدلالًا على الرغم من شهادة حديث المسند لها.
ذكر ابن كثر رواية عن الْوَاقِدِي فيها بسنده عَن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «بَيْنا نحْن مُجْتَمِعُون نبْكِي لَمْ ننمْ وَرَسُولُ اللهِ فِي بُيُوتِنا وَنحْن نتَسَلَّى بِرُؤْيَتِهِ عَلَى السَّرِيرِ؛ إذ سَمِعْنا صَوْتَ الْكَرَازِين فِي السَّحَرِ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَصِحْنا وَصَاحَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَارْتَجَّتِ الْمَدِينةُ صَيْحَةً وَاحِدَةً، وأذَّن بِلَالٌ بِالْفَجْرِ، فَلَمَّا ذَكَرَ النبيَّ وبكَى وانتَحَبَ فزادَنا حُزْنا، وَعَالَجَ الناسُ الدُّخُولَ إِلَى قَبْرِهِ فَغُلِقَ دُونهُمْ، فَيَا لَهَا مِن مُصِيبَةٍ! مَا أُصِبْنا بَعْدَهَا بِمُصِيبَةٍ إِلَّا هَانتْ إِذَا ذَكَرْنا مُصِيبَتَنا بِهِ ».
في هذه الرواية رد على قول الرافضي: «لم يَرِد في شيء من الحديث، ولا التاريخ شيء يفيد أنها انتقلت إلى مسكن آخر».
([11]) صحيح البخاري (1/86)، صحيح مسلم (1/367).
([12]) مسند أحمد، ط الرسالة (43/23).
([13]) ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، المجلسي (9/8).
([14]) المقنعة، المفيد (ص457).
لتحميل الملف pdf