روى ابن سعد في «الطبقات» بسنده عَن عَطَاءِ بْن يَسَارٍ أَن النبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَزْوَاجِهِ: «أَيُّكُنَّ اتَّقَتِ اللهَ، وَلَمْ تَأْتِ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنةٍ، وَلَزِمَتْ ظَهْرَ حَصِيرِهَا فَهِيَ زَوْجَتِي فِي الْآخِرَةِ»([1]).
فقالت الرافضة: «فمن خرجت من النساء بعد ذلك من بيتها فهي عاصية، وليست زوجة له في الجنة».
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: فساد الدليل
رواية ابن سعد لا تصح، وفيها علتان:
الأولى: محمد بن عمر الواقدي، وهو وضَّاع متروك بالإجماع:
قال الذهبي: «مُحَمَّدُ بن عمرَ بن وَاقدٍ الْأَسْلَمِيُّ مَوْلَاهُم الْوَاقِدِيُّ، صَاحب التصانيف، مجمَع على تَركه. وَقَالَ ابْن عدي: يروي أَحَادِيثَ غيرَ مَحْفُوظَة، وَالْبَلَاء مِنهُ. وَقَالَ النسَائِيّ: كَان يضع الحَدِيث. وَقَالَ ابْن مَاجَه: ثَنا ابْن أبي شيبَة، ثَنا شيخ، ثَنا عبد الحميد بن جَعْفَر، فَذكر حَدِيثًا فِي لِبَاس الْجُمُعَة، وحسبك بِمن لَا يَجْسُر أَن يُسَمِّيه ابْن مَاجَه»([2]).
الثانية: الانقطاع بين عطاء والنبي، فعطاء من التابعين:
قال الحافظ ابن حجر: «عطاء بن أبي ميمونة البصري أبو معاذ، واسم أبي ميمونة منيع، ثقة، رمي بالقدر، من الرابعة، مات سنة إحدى وثلاثين»([3]).
ثانيًا: معنى الرواية عدم وجوب الحج عليهن، وليس كما فهمت الرافضة
أخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد حسن، عَن صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَن رَسُولَ اللهِ لَمَّا حَجَّ بِنسَائِهِ قَالَ: «إِنمَا هِيَ هَذِهِ الْحَجَّةُ، ثُمَّ الْزَمْن ظُهُورَ الْحُصْرِ»([4]).
فهذه الرواية الكلام فيها متعلق بالحج لا غيره، ومع ذلك فالأمر فيها ليس على سبيل الوجوب، ولذلك فَهِمَ أزواجُ النبي من قولِه : «ثُمَّ الْزَمْن ظُهُورَ الْحُصْرِ» أنه لا يجب عليهن حج بعد ذلك، لا أنه يمنعهن من حج بيت الله الحرام، ولذلك وجدنا أن جميعَهن حججن بعده مراتٍ عديدةً.
فقد ثبت عند البخاري: «أَذِن عُمَرُ ا لِأَزْوَاجِ النبِيِّ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُن عُثْمَان بْن عَفَّان، وَعَبْدَ الرَّحْمَن بْن عَوْفٍ»([5]).
وروى ابن الجوزي في (المنتظم) في حوادث سنة (23هـ): عَن أَبِي عُثْمَان، وَأَبِي حَارِثَةَ، وَالرَّبِيعِ بِإِسْنادِهِمْ قَالُوا: «حَجَّ عُمَرُ بِأَزْوَاجِ النبِيِّ ق مَعَهُن أَوْلِيَاؤُهُن مِمَّن لا تَحْتَجِبْن مِنهُ، وَجَعَلَ فِي مُقَدَّمِ قِطَارِهِن عَبْدَ الرَّحْمَن ابْن عَوْفٍ، وَفِي مُؤَخِّرِهِ عُثْمَان بْن عَفَّان»([6]).
وروى البخاري أيضًا عن عَائِشَةَ بِنتِ طَلْحَةَ، عَن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنين، قَالَتْ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نغْزُو وَنجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: «لَكِن أَحْسَن الجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَا أَدَعُ الحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِن رَسُولِ اللهِ»([7]).
وقد بيَّن الحافظ ابن حجر في «الفتح» هذه الروايات بيانًا شافيًا فقال: «وروى ابن سَعْدٍ أَيْضًا بِإِسْنادٍ صَحِيحٍ مِن طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ نسَاءَ النبِيِّ حَجَجْن فِي هَوَادِجَ عَلَيْهَا الطَّيَالِسَة زَمَن الْمُغيرَةِ، أَي ابن شُعْبَةَ.
وَالظَّاهِرُ: أَنهُ أَرَادَ بِذَلِكَ زَمَن وِلَايَةِ الْمُغِيرَةِ عَلَى الْكُوفَةِ لِمُعَاوِيَةَ، وَكَان ذَلِكَ سَنةَ خَمْسِين أَوْ قَبْلَهَا، وَلِابْن سَعْدٍ أَيْضًا مِن حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ قَالَتْ: رَأَيْتُ عُثْمَان وَعَبْدَ الرَّحْمَن فِي خِلَافَةِ عُمَرَ حَجَّا بِنسَاءِ النبِيِّ فَنزَلْن بِقُدَيْدٍ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِن وَهُن ثَمَان، وَلَهُ مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنهُن اسْتَأْذَن عُثْمَان فِي الْحَجِّ، فَقَالَ: أَنا أَحُجُّ بِكُن، فَحَجَّ بِنا جَمِيعًا إِلَّا زَيْنبَ كَانتْ مَاتَتْ، وَإِلَّا سَوْدَةَ فَإِنهَا لَمْ تَخْرُجْ مِن بَيْتِهَا بَعْدَ النبِيِّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ مِن طَرِيقِ وَاقِدِ بْن أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ عَن أَبِيهِ أَن النبِيَّ قَالَ لِنسَائِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصْرِ»، زَادَ بن سَعْدٍ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَكُن نسَاءُ النبِيِّ يَحْجُجْن إِلَّا سَوْدَةَ وَزَيْنبَ فَقَالَتَا: لَا تُحَرِّكُنا دَابَّةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ق، وَإِسْنادُ حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ صَحِيحٌ، وَأَغْرَبَ الْمُهَلَّبُ فَزَعَمَ أَنهُ مِن وَضْعِ الرَّافِضَةِ لِقَصْدِ ذَمِّ أُمِّ الْمُؤْمِنين عَائِشَةَ فِي خُرُوجِهَا إِلَى الْعِرَاقِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْن الناسِ فِي قِصَّةِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَهُوَ إِقْدَامٌ مِنهُ عَلَى رَدِّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَالْعُذْرُ عَن عَائِشَةَ أَنهَا تَأَوَّلَتِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ كَمَا تَأَوَّلَهُ غَيْرُهَا مِن صَوَاحِبَاتِهَا، عَلَى أَن الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِن غَيْرُ تِلْكَ الْحَجَّةِ، وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ عِندَهَا بِقَوْلِهِ : «لَكِن أَفْضَلَ الْجِهَادِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ»، وَمِن ثَمَّ عَقَّبَهُ الْمُصَنفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَأَن عُمَرَ ا كَان مُتَوَقِّفًا فِي ذَلِكَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ الْجَوَازُ فَأَذِن لَهُن، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ مَن ذُكِرَ مِن الصَّحَابَةِ وَمَن فِي عصره من غير نكِير»([8]).
فهذا فَهْمُ أزواج النبي للحديث، بل وفهم جميع أصحاب النبي .
ثالثًا: عمل الأصحاب حجة عند الرافضة:
قالت الرافضةُ: إن الروايات إذا أعرض عنها أصحاب الأئمة، حتى ولو كانت صحيحة سندًا، فهي ضعيفة ولا يؤخذ بها لمجرد إعراض أصحاب المعصومين عنها، فصار فهم أصحاب المعصوم هو الحاكم على الرواية، حتى لو كانت في غاية الصحة والوضوح.
يقول البروجردي: «ومن هنا اشتهر أن الرواية كلما ازدادت صحة، ازدادت ضعفًا وريبًا إذا أعرض عنها الأصحاب، وكلما ازدادت ضعفًا زادت قوة إذا عمل بها الأصحاب، كما في المسألة المشار إليها»([9]).
ويقول الميرزا القمي: «وهذه الأخبار كلما ازدادت عددًا وسندًا ودلالةً مع هجر معظم الأصحاب إياها ازدادت ضعفًا، خصوصًا مع عملهم على ما هو أقل منها عددًا وسندًا ودلالة»([10])، وقال مثل ذلك الگلپايگاني([11])وحيدر حب الله([12]).
فإذا كان الإجماع حاكمًا على الرواية، فقد أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذه الرواية ليس فيها منع خروج أزواج النبي من بيوتهن لمصلحة شرعية، سواء كان لحج أو لغيره، لاسيما وقد خفف الله عنهن، وأذِن لهن في الخروج من البيت لقضاء الحوائج، كما عند البخاري أنه ق قال: «قَدْ أَذِن اللهُ لَكُن أَن تَخْرُجْن لِحَوَائِجِكُن»([13]).
فثبت من ذلك أن كل مصلحة شرعية معتبرة تجيز لهن الخروج من بيوتهن قطعًا.
رابعًا: رمتْنا بدائها وانسلت
يعيب الرافضة على نساء النبي مجرد الخروج من بيوتهن، مع أن فاطمة بنت النبي قد خرجت -في رواياتهم- وخطبت أمام الرجال، بل وأمسكت بتلابيب عمر.
ففي «الكافي» عن أبي جعفر وأبي عبد الله قالا: «إن فاطمة لَمَّا أن كان من أمرهم ما كان أخذت بتلابيب عمر، فجذبته إليها، ثم قالت: أما والله يا بن الخطاب لولا أني أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له، لعلمت أني سأقسم على الله ثم أجده سريع الإجابة»([14]).
قال المازندراني: «التلابيب جمع التلبيب، وهو ما في موضع اللبب من ثياب الرجل، تقول: أخذت بتلبيب فلان، إذا جمعت عليه ثوبه الذي هو لابسه، وقبضت عليه تجره، وكان ذلك حين مزق كتابها الذي كتبها أبو بكر، في رد فدك إليها بعد إكمال الحجة عليه، فآذاها وآذى الرسول بذلك»([15]).
فإذا كان مجردُ خروج نساء النبي موجِبًا لمذمة الرافضة لهن، فما قولهم في مصارعة فاطمة الرجال؟! هل يليق هذا من بَضْعة رسول الله ق؟! ناهيك عن أن زوجها كان حيًّا!
وأما خطبة فاطمة فمشهورة في كتب الشيعة، وقد رواها الطبرسي تحت عنوان: «احتجاج فاطمة الزهراء على القوم لما منعوها فدك، وقولها لهم عند الوفاة في الإمامة»([16]).
فزعموا أنها دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، وخطبت فيهم خطبة طويلةً، ثم عنفت علي بن أبي طالب بأقذع الألفاظ([17])، فليزمهم بذلك في فاطمة ما ذكروه في أمهات المؤمنين -رضي الله عن الجميع-.
اقرأ أيضا| رواية: «أَتَتْكُمُ الْحُمَيْرَاءُ فِي كَتِيبَةٍ يَسُوقُهَا أَعْلاجُهَا»
([1]) الطبقات الكبرى، ابن سعد (8/208).
([2]) المغني في الضعفاء، الذهبي (2/619).
([3]) تقريب التهذيب، ابن حجر (ص392).
([4]) مسند أحمد (15/476).
([5]) صحيح البخاري (3/19).
([6]) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ابن الجوزي (4/327).
([7]) صحيح البخاري (3/19).
([8]) فتح الباري، ابن حجر (4/73 -74).
([9]) تقريرات في أصول الفقه - تقرير بحث البروجردي، الاشتهاردي (ص296).
([10]) غنائم الأيام، الميرزا القمي (1/414).
([11]) در المنضود، الگلپايگاني (1/330 – 331).
([12]) إضاءات في الفكر والدين والاجتماع، حيدر حب الله (ص367) قال: «ولهذا ضعَّف الأدلَّة الروائيَّة هنا بعضُ الفقهاء في بحوثهم العلميَّة، مثل الشيخ جعفر السبحاني، والسيد تقي القمي، والسيد العاملي صاحب (نهاية المرام)، لكنهم عادوا وقوَّوا الروايات بعمل الأصحاب وبالإجماع المحقَّق على هذا الحكم».
([13]) صحيح البخاري (7/38).
([14]) الكافي، الكليني (1/460).
([15]) شرح الكافي، صالح المازندراني (7/214).
([16]) الاحتجاج، الطبرسي (1/131).
([17]) بحار الأنوار، المجلسي (29/317).
لتحميل الملف pdf