روى حمزة بن أبي أسيد الساعدي عن أبيه، وكان بدريًّا، قال: تزوج رسول الله ق أسماء بنت النعمان الجونيَّة، فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة: اخضبِيها أنت! وأنا أُمَشطها! ففعلتا. ثم قالت لها إحداهما:
إن النبي يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك! فلما دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها فقالت: أعوذ بالله منك، فقام رسول الله وكُمُّهُ على وجهه فاستتر به، وقال: «عُذْتِ بِمَعَاذٍ» ثلاث مرات، ثم خرج إلى أبي أسيد فقال: «يا أبا أسيد، ألحِقْها بأهلها، ومتعها برازقيتين» يعني: كرباسين، وطلَّقَهَا، فكانت تقول: ادعوني الشقيَّة. قال ابن عمر: قال هشام بن محمد: فحدثني زهير بن معاوية الجعفي أنها ماتت كَمَدًا»([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: أصل القصة صحيح
وردت في أحاديث عدة وسياقات يكمل بعضها بعضًا، فروى البخاري في «صحيحه» عن الإمام الأوزاعي قَالَ: «سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: أَيُّ أَزْوَاجِ النبِي اسْتَعَاذَتْ مِنهُ؟ قَالَ: أَخْبَرَني عُرْوَةُ، عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَن ابْنةَ الْجَوْن لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ق وَدَنا مِنهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنكَ، فَقَالَ لَهَا: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ»([2]).
وروى البخاري عَن عَبَّاسِ بْن سَهْلٍ، عَن أَبِيهِ وَأَبِي أُسَيْدٍ قَالَا: «تزَوَّجَ النبِيُّ أُمَيْمَةَ بِنتَ شَرَاحِيلَ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَكَأَنهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَن يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْن رَازِقِيَّيْن»([3]) أي: ثيابًا من كتان بيض طوال.
وروى أيضًا عَن سَهْلِ بْن سَعْدٍ ا قَالَ: «ذُكِرَ لِلنبِيِّ امْرَأَةٌ مِن الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَن يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ فَنزَلَتْ فِي أُجُمِ بَني سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النبِيُّ حَتَّى جَاءَهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا النبِيُ قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنكَ، فَقَالَ: «قَدْ أَعَذْتُكِ مِني» فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِين مَن هَذَا؟ قَالَتْ: لَا، قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللهِ ق جَاءَ لِيَخْطُبَكِ، قَالَتْ: كُنتُ أَنا أَشْقَى مِن ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ النبي يَوْمَئِذٍ حَتَّى جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَني سَاعِدَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «اسْقِنا يَا سَهْلُ»، فَخَرَجْتُ لَهُمْ بِهَذَا الْقَدَحِ فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ، فَأَخْرَجَ لَنا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنا مِنهُ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَهَبَهُ لَهُ»([4]).
ثانيًا: لماذا استعاذت المرأة الجونية من رسول الله؟
يمكن الجواب عن ذلك من وجوه:
أولًا: لم تكن تعرف أنه رسول الله
قد يقال: إنها لم تكن تَعرِفُ رسولَ الله بدليل الرواية الأخيرة من الروايات المذكورة أعلاه، وفيها: «فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِين مَن هَذَا؟ قَالَتْ: لَا...».
قال الحافظ ابن حجر: «وقال غيره: يحتمل أنها لم تعرفه ق فخاطبته بذلك، وسياق القصة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال... ويتعين أنها لم تعرفه، وإن كانت القصة متعددة، ولا مانع من ذلك، فلعل هذه المرأة هي الكلابية التي وقع فيها الاضطراب»([5]).
ثانيًا: لا يصح خبر في إيهامها أن هذه الكلمة يحبها رسول الله
قال بعض أهل العلم: إن سبب استعاذتها من النبي ق ما أغراها به بعض أزواجه صلى الله عليه وسلم؛ حيث أوهموها أنه ق يحب هذه الكلمة، فقالتها رغبة في التقرُّب إليه، وهي لا تدري أنه سيعيذها من نفسه بالفراق إن سمعها منه، وجاء ذلك من طرقٍ ثلاثٍ:
الطريق الأولى: يرويها ابن سعد في «الطبقات»([6])، والحاكم في «المستدرك»([7])، من طريق محمد بن عمر الواقدي، وهو ضعيف في الحديث.
والطريق الثانية: يرويها ابن سعد في «الطبقات»([8]) من طريق محمد بن عمر من رواية سعيد بن عبد الرحمن بن أبْزَى قال: «الجونية استعاذت من رسول الله، وقيل لها: هو أحظى لك عنده، ولم تستعذ منه امرأةٌ غيرها، وإنما خُدِعَت لِمَا رؤي من جمالها وهيئتها، ولقد ذكر لرسول الله ق مَن حَمَلها على ما قالت له، فقال : «إِنهُن صَوَاحِبُ يُوسُفَ»».
الطريق الثالثة: رواها ابن سعد أيضًا في «الطبقات» قال: أخبرنا هشام ابن محمد بن السائب، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: «تزوج رسول الله ق أسماء بنت النعمان، وكانت من أجمل أهل زمانها وأشبهم، قال: فلما جعل رسول الله ق يتزوج الغرائب قالت عائشة: قد وضع يده في الغرائب يوشكن أن يصرفْن وجهه عنا، وكان خطبها حين وفدت كندةُ عليه إلى أبيها، فلما رآها نساء النبي ق حَسَدْنها، فقلن لها: إن أردت أن تحظَيْ عنده فتعوذي بالله منه إذا دخل عليك، فلما دخل وألقى الستر مد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: «أَمِن عَائِذُ اللهِ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ»»([9]).
` وروى أيضًا قال: أخبرنا هشام بن محمد، حدثني ابن الغسيل، عن حمزة بن أبي أسيد الساعدي، عن أبيه -وكان بدريًّا– قال: «تزوج رسول الله ق أسماء بنت النعمان الجونية، فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة أو عائشة لحفصة: اخضبيها أنت وأنا أمشطها، ففعلتا، ثم قالت لها إحداهما: إن النبي يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك.
فلما دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها فقالت: أعوذ بالله منك، فقال بكمه على وجهه فاستتر به، وقال: «عُذْتِ مَعَاذًا» ثلاث مرات.
قال أبو أسيد: ثم خرج عليَّ فقال: «يا أَبَا أُسَيْدٍ، أَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا، وَمَتِّعْهَا بِرَازِقِيَّتَيْن»، يعني: كرباستين، فكانت تقول: ادعوني الشقية».
وكل هذه الروايات لا تصح إسنادًا؛ قال ابن الصلاح: «وقوله: (فَعَلَّمَتْهَا نسَاؤُهُ) زيادة لم أجد لها أصلًا ثابتًا، وحديث المستعيذة ثابتٌ في صحيح البخاري وغيره، بدون هذه الزيادة البعيدة، وقد رواها محمد بن سعد في «طبقاته» لكن بإسناد ضعيف»([10]).
ثالثًا: قالتها تكبُّرًا لحسنها وجمالها ورغبتها في الملوك.
وذكر آخرون من أهل العلم أن سبب استعاذتها هو تكبرها؛ حيث كانت جميلةً وفي بيت من بيوت ملوك العرب، وكانت ترغب عَن الزواج بمن ليس بِمَلِك، وهذا يؤيده ما جاء في بعض طرق الخبر، وفيه: «فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النبِيُّ ق قَالَ: «هَبِي نفْسَكِ لِي»، قَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نفْسَهَا لِلسُّوقَةِ؟! قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُن، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنكَ، فَقَالَ: «قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ»، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنا، فَقَالَ: «يَا أَبَا أُسَيْدٍ، اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْن وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا»»([11]).
قال الحافظ ابن حجر: «(السُّوقة) قيل لهم ذلك؛ لأن الملك يسوقهم فيساقون إليه، ويصرفهم على مراده، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقي.
قال ابن المنير: هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوقة عندهم من ليس بملك كائنا من كان، فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكةَ من ليس بملك، وكان قد خير أن يكون ملكًا نبيًّا، فاختار أن يكون عبدًا نبيًّا؛ تواضعًا منه لربه، ولم يؤاخذها النبي ق بكلامها، معذرةً لها لقرب عهدها بجاهليتها»([12]).
رابعًا: قد وقع نظير هذا عند الرافضة.
أشار إلى هذا الأمر الطبرسي فقال: «وتزوَّج مليكة الليثيَّة، فلمَّا دخل عليها قال لها: «هبي لي نفسك»، فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟! فأهوى بيده يضعها عليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: «لقد عذت بمعاذ» فسرَّحها ومتَّعها»([13]).
خامسًا: لو ثبت عن زوجاته فالغيرة هي الدافع، كما غارت فاطمة على عليّ.
فلو صح أن هذا الأمر صدر عن عائشة ل أو إحدى زوجات النبيِّ، فالدافع لها كما هو ظاهر إنما هو الغَيرة التي تكون بين الزوجات.
قال ابن الملقن: «واستبعد بَعضهم صُدُور هَذَا القَوْل من نسَاء رَسُول الله مَعَ شرفهن بِصُحْبَتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بالقوي؛ فَإِن الْغيرَة وَالْحب لرَسُول الله والحرص عَلَى عدم مشاركتهن فِيهِ قد تحملهن عَلَى قريبٍ من ذَلِك؛ إِذْ جَاءَ فِي «الصَّحِيح» تواطؤُ عَائِشَةَ وَصفِيَّةَ وَسَوْدَةَ عَلَى أَن رَسُول الله إِذا دخل عَلَيْهِن يَقُلْن لَهُ: «أَكْلَتَ مَغَافِيرَ...» الحديثَ»([14]).
ولو سلمْنا جدلًا للرافضة أن بعض نساء النبي خدعت ابنة الجون، فالنبي لا يقبل بخِدَاع امرأةٍ ويعاقبها على شيء قد خدعها فيه غيرها! بل سيدافع عنها ويلوم من خدعها؟!
أو أن يقول الرافضي: إن النبي قد خُدع كما خُدعت المرأة!!
اقرأ أيضا| الرد على زعم الشيعة بأن هناكَ من هن خير من عائشة
([1]) لقد شيعني الحسين ، إدريس الحسيني (ص342).
([2]) صحيح البخاري (7/41) (ح5254).
([3]) صحيح البخاري (7/41) (ح5255).
([4]) صحيح البخاري (7/113) (ح5637).
([5]) فتح الباري (9/358).
([6]) الطبقات (8/143 -148).
([7]) المستدرك (4/39).
([8]) الطبقات، ابن سعد (8/144).
([9]) الطبقات، ابن سعد (8/145).
([10]) شرح مشكل الوسيط، ابن الصلاح (3/513).
([11]) صحيح البخاري (7/41) (ح5255).
([12]) فتح الباري (9/358).
([13]) إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسي (ص279).
([14]) البدر المنير، ابن الملقن (7/455)، والمغافير جمع مغفور، وهو صمغ حلو له رائحة كريهة.
لتحميل الملف pdf