يقولون: إن عائشة كانت تحسُد خديجةَ وفاطمةَ، ورووا في ذلك روايات ذكرها جعفر مرتضى العاملي في كتابه (الصحيح من سيرة النبي الأعظم)([1])، وذكرها محمد طاهر القمي الشيرازي في كتاب (الأربعين)([2]) وغيرهما، ويعللون أن الحسد من المعاصي التي نهى عنها الشرع.
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: قد يُطلق الحسد على أشياء ممدوحة.
أخرج الشيخان في صحيحيهما أن النبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنتَيْن: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا»([3]).
والحسد هنا هو الغبطة، قال الحافظ: «وَمَعْنى الْغِبْطَةِ: تَمَني الْمَرْءِ أَن يَكُون لَهُ نظِيرُ مَا لِلْآخَرِ مِن غَيْرِ أَن يَزُولَ عَنهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَسَدِ الَّذِي أُطْلِقَ فِي الْخَبَرِ»([4]).
وقال: «وَأَمَّا الْحَسَدُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ الْغِبْطَةُ، وَأَطْلَقَ الْحَسَدَ عَلَيْهَا مَجَازًا، وَهِيَ أَن يَتَمَنى أَن يَكُون لَهُ مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِ مِن غَيْرِ أَن يَزُولَ عَنهُ، وَالْحِرْصُ عَلَى هَذَا يُسَمَّى مُنافَسَةً، فَإِن كَان فِي الطَّاعَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَمِنهُ: [فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] {المطففين:26}، وَإِن كَان فِي الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَمِنهُ: «وَلَا تَنافَسُوا»، وَإِن كَان فِي الْجَائِزَاتِ فَهُوَ مُبَاحٌ، فَكَأَنهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: لَا غِبْطَةَ أَعْظَمُ أَوْ أَفْضَلُ مِن الْغِبْطَةِ فِي هَذَيْن الْأَمْرَيْن»([5]).
قال الطاهر بن عاشور في معنى الحديث: «أَيْ: لَا غِبْطَةَ، أَي: لَا تحقُّ الْغِبْطَةُ إِلَّا فِي تَيْنكَ الْخَصْلَتَيْن»([6]).
الإقرار الشيعي.
وقد اعترفت الشيعة بذلك وأقرت به، قال عبد الله شبر: «فسمَّى الغبطةَ حسدًا، كما قد يسمَّى الحسدُ منافسةً»([7]).
وقال الراغب في (الذريعة إلى مكارم الشريعة): «قيل: عنى هنا الغبطة، وقد تسمى بالحسد من حيث إنهما الغم الذي ينال الإنسان من خير يناله غيره»([8]).
ونقل عليٌّ النمازي عن العيون فقال: «عن الهروي قال: قلت للرضا : يا بن رسول الله ، أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء، ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها: فمنهم من يروي أنها الحنطة، ومنهم من يروي أنها العنب، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال: كل ذلك حق، قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟
فقال: يا أبا الصلت، إن شجرة الجنة تحمل أنواعًا، فكانت شجرة الحنطة وفيها عنب، وليست كشجر الدنيا، ثم ذكر عِرْفَانهُما فضل محمد وآله الطيبين، وأنه لولاهم ما خلق الله شيئًا، وقوله: (فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد، فأخرجك عن جواري)، فنظر إليهم بعين الحسد، وتمنى منزلتهم، فتسلط الشيطان عليه حتى أكل من الشجرة، وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد، والمراد بالحسد: الغبطة التي لم تكن تنبغي له، ويؤيده قوله: وتمنى منزلتهم»([9]).
فانظر إلى تفسير النمازي الحسد هنا بالغبطة، وهذا معلوم عند العرب، لكن في هذا الموضع الذي في رواية (عيون أخبار الرضا) لا يمكن حملها على الغبطة؛ لأن الغبطة فاعلها محمود لا يعاقب ولا يُهدد على فعلها، بخلاف ما ورد في هذه الرواية!
قال الشهيد الثاني: «وإذ قد عرفت أنه لا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان:
إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، وهذه الحالة تسمى: حسدًا، والثانية: ألَّا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها، ولكنك تشتهي لنفسك مثلها، وهذا يسمى: غبطة، وقد يخص باسم المنافسة، قال الله تعالى: [فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ] {القلم:50}، وقد تُسمى المنافسةُ حسدًا، والحسدُ منافسةً»([10]).
وعليه؛ فقد يُطلق لفظ الحسد على طلب الخير مع عدم تمني زوال النعمة، وهو مطلوب شرعًا، ومحمود لا يُذم فاعله.
ثانيًا: الحسد الذي ورد في الأحاديث هو غيرة النساء.
كل رواية صحَّت عن أم المؤمنين في ذلك فإنما هي غَيْرة على قلب رسول الله ومنافسة في خير عظيم، وسعي في إسعاد رسول الله .
وقد روت الشيعة عن الصادق قول لقمان لابنه: «للحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب، ويتملق إذا شهد، ويشمت بالمصيبة»([11]).
ولم يكن هذا حالَ أمِّ المؤمنين، بل كانت تروي مناقب أمهات المؤمنين، وعلى رأسهم خديجة التي كانت تغار منها وهي ميتة من كثرة ذكر رسول الله لها، وكانت تروي مناقب فاطمة، وفي هذا ألَّف أحد علماء الشيعة كتاب أسماه: «السيدة فاطمة الزهراء على لسان عائشة زوجة رسول الله »([12])، وهذا الكتاب جمع فيه مؤلفه أربعين رواية نقلت فيها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فضائل فاطمة بَضعة رسول الله.
وعليه؛ فالحسد من أم المؤمنين عائشة كان محمودًا؛ إذ ليس فيه تمني زوال النعمة من الغير.
اقرأ أيضا| هل الإمام الحسين يسمعني حين أناديه؟.. سؤال رامي عيسى لـ معمم لبناني (فيديو)
([1]) جعفر مرتضى (3/291).
([2]) الأربعين (1/484).
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه (1/25)، ومسلم في صحيحه (2/201).
([4]) فتح الباري، ابن حجر (1/166).
([5]) فتح الباري، ابن حجر (1/167).
([6]) التحرير (30/630).
([7]) كتاب الأخلاق (2/77).
([8]) الذريعة إلى مكارم الشريعة (183)، ومنية المريد، الشهيد الثاني (ص102).
([9]) مستدرك سفينة البحار (5/358).
([10]) هامش كتاب الأخلاق، عبد الله شبر (2/77).
([11]) ميزان الحكمة، محمد المحمدي الريشهري (1/631).
([12]) جمعه وبوَّبه وعلق عليه جعفر الهادي.
لتحميل الملف pdf