أخرج الإمام أحمد في مسنده بسنده عن يَحْيَى بْن عَبَّادِ بْن عَبْدِ اللهِ بْن الزُّبَيْرِ، عَن أَبِيهِ عَبَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: «مَاتَ رَسُولُ اللهِ بَيْن سَحْرِي وَنحْرِي وَفِي دَوْلَتِي، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا، فَمِن سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِني أَن رَسُولَ اللهِ قُبِضَ وَهُوَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ، وَقُمْتُ أَلْتَدِمُ مَعَ النسَاءِ، وَأَضْرِبُ وَجْهِي»([1]).
فقالت الشيعة: «إن عائشة بنت أبي بكر كانت ولحين وفاة النبي تصور نفسها بنفسها للتاريخ وتصف لنا شخصيتها، وأنها الفتاة الصغيرة الحديثة السن والسفيهة بحسب تعبيرها»([2]).
واستدلوا بذلك على جواز اللطم والنياحة، فقال عباس الحسيني: «والرواية دالَّة على أن عائشة التدمت وضربت وجهها، فلو كان محرَّمًا لما فعلته»([3]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: الخطأ في الاستدلال
هذا الأثر يُستدل به على المنع من اللطم والتطبيرِ وليس الإباحة؛ إذ إن أم المؤمنين نسبت ذاك الفعل إلى السفه مع حداثة السن، والسفه قلة الحلم كما قال ابن منظور في (لسان العرب): «السَّفَهُ والسَّفاهُ والسَّفاهة: خِفَّةُ الحِلْم، وَقِيلَ: نقِيضُ الحِلْم»([4]).
فهذا قولُ نادمٍ على فعله لا مقرر له، وهذا مفهوم الأثر عند كل عاقل، وإلا فلا يجوز نسبة المباح في الشرع إلى السفة وصغر السن، فأُمُّ المؤمنين تبين بذلك عدم جواز اللطم والنياحة على الميت.
ولو أن الشيعة قد تمسكت واستمسكت بالأثر إلى آخر رمق للاستدلال على جواز اللطم والتطبير ونظير هذه الشعائر، فنقول: يجب أن يؤخذ بالدليل على تمامه، فيُقال بأن اللطم والتطبير جائز للسفهاء وحدثاء الأسنان؛ لأن نص الخبر آنذاك منسوبٌ إلى السفه وحداثة السن!
ثانيًا: الرقة والجزع في طبائع النساء
فقد تُعذر أم المؤمنين والنساء عامة بما في طبائعهن من رقة وجزع وعدم تمالك النفس، وقد روت الشيعة عن علي بن الحسين أنه قال: «فأما عمتي فإنها سمعت ما سمعت وهي امرأة، وفي النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرُّ ثوبها وإنها لحاسرة حتى انتهت إليه، فقالت: واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي وعلي أبي وحسن أخي، يا خليفة الماضي وثمال الباقي، فنظر إليها الحسين S فقال: يا أخيَّةُ، لا يُذهبن حلمَك الشيطان...»([5]).
فانظر إلى تبرير علي بن الحسين لما فعلته عمته من مخالفات شرعية من نياحة ولطم وشق للثياب، فقال: «وفي النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها».
فهذا هو وجه عذر أم المؤمنين عائشة .
وقد روى الشيعة في كتبهم عن الصادق أنه قال: «ثلاث من ابتلي بواحدة منهن كان طائح العقل: نعمة مولية، وزوجة فاسدة، وفجيعة بحبيب»([6]).
فمن فُجِعَ بحبيبٍ طاش عقله -على حد قول الصادق عندهم- فهل يُلام من طاش عقله عند مصيبة؟! وكل هذا ليس تبريرًا للطم والنياحة، إنما نلزمُ الشيعة بما في كتبهم من تقرير أن المصيبة عند نزولها قد تطيش عقول العاقلين، فإذا وقعت منه مخالفة وجب عليه أن يَستغفر ويعود إلى الله، ولا نلومه بعد ذلك.
وأما قولها: «فَمِن سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِني» وقول الرافضة -قبحهم الله-: إن أم المؤمنين عائشة أقرت على نفسها بأنها سفيهة، فيلزمهم أن يصفوا نبي الله موسى بالضلال؛ لقوله عن نفسه كما حكاه عنه المولى: [قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ] {الشعراء:20}، بل ويلزمهم كذلك أن يصفوا الإمام الرابع زين العابدين أنه حقير؛ لقوله عن نفسه: «اللهم فإني امرؤ حقير، وخطري يسير، وليس عذابي مما يزيد في ملكك مثقال ذرة»([7])، فكل ما كان مخرجًا لهم في موسى أو زين العابدين فهو مخرجنا عينه لأم المؤمنين عائشة، ونحن نقول: إن ذلك من هضم النفس، ولا يعدو ذلك قِيدَ أنملة.
ثالثًا: كفارة فعل عائشة هو الاستغفار:
غاية ما في الأمر أن أم المؤمنين فعلت ذلك وندمت وانتهى الأمر، فكان ماذا؟! يقول المفيد: «ولا يجوز للمرأة أن تلطم وجهها في مصاب، ولا تخدشه، ولا تجز شعرها، فإن جزته كان عليها كفارة قتل الخطأ: عتق رقبة، أو إطعام ستين مسكينًا، أو صيام شهرين متتابعين، وإن خدشت وجهها حتى تدميه فعليها كفارة يمين، وإن لطمت وجهها استغفرت الله تعالى، ولا كفارة عليها أكثر من الاستغفار»([8]).
وهذا شأن كل من هو غير معصوم، فإذا جاز تعيير المسلم بمعصية، لزم من ذلك تعيير كل من لم يكن معصومًا، وهذا لا يقول به أحد، وسياق القصة يبين توبة أُم المؤمنين وندمها على ذلك، ولا يجوز تعيير مسلم بذنبٍ تاب منه، وإلا كان هو الأحق باللوم من صاحب الذنب كما في حديث احتجاج آدم موسى.
فعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِن الجَنةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، ثُمَّ تَلُومُني عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَن أُخْلَقَ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ق: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى مَرَّتَيْن»([9]).
فثَبَت من ذلك أن من عيَّرَ مسلمًا بذنب تاب منه فهو المخطئ المحجوج.
اقرأ أيضا| نفيُهم دفن رسول الله في الحجرة الشريفة
([1]) مسند أحمد، ط الرسالة (43/368 -369).
([2]) فضائل أهل البيت بين تحريف المدونين وتناقض مناهج المحدثين، وسام البلداوي (1/492).
([3]) زيارة عاشوراء تحفة من السماء - بحوث الشيخ مسلم الداوري، عباس الحسيني (1/254).
([4]) لسان العرب (13/497).
([5]) إحقاق الحق وإزهاق الباطل، نور الله التُّسْتَري (27/225)، مسند الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي(ع)، عزيز الله العُطَاردي (2/17).
([6]) ميزان الحكمة، محمد الريشهري (1/310).
([7]) الصحيفة السَّجَّادية الكاملة، الإمام زين العابدين علي بن الحسين ب (ص296).
([8]) المقنعة، المفيد (ص573).
([9]) صحيح البخاري (4/158).
لتحميل الملف pdf