الشبهة الثامنة والثلاثون
طعن الشيعة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِمَ نعطي الدنية في ديننا".
محتوى الشبهة:
من مطاعن الشيعة الإمامية في عمر بن الخطاب رضي الله عنه كونه قال يوم الحديبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم نعطي الدنية في ديننا؟".
قال جعفر السبحاني: "فمن يصف عمل الرسول بإعطاء الدنيّة في الدين، كيف يعدّ من المسلِّمين لأمره ونهيه؟!"([1]).
وقال محمد السند: "ولم يكتف عمر بذلك، بل عبّأ عصياناً عامّاً لدى المسلمين على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، تحت شعار: (لا نقبل الدنية في ديننا)، وإنّ هذا الشعار هو من المحكمات التي يحكمها على نبيّ الله تعالى"([2]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: هذا القول من عمر رضي الله عنه ليس شكًا ولا معارضة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان سؤالاً واستكشافًا لأمر خفي عنه.
قال الإمام القرطبي: "وقول عمر: " لم نعطي الدنية في ديننا ؟"؛ يعني بالدنية: الحالة الخسيسة، ويعني به: الصلح على ما شرطوا، ولم يكن ذلك من عمر شكًّاً، ولا معارضةً، بل كان استكشافًا لما خفي عنه، وحثًّاً على قتال أهل الكفر، وإذلالهم، وحرصًا على ظهور المسلمين على عدوهم، وهذا على مقتضى ما كان عنده من القوة في دين الله، والجرأة، والشجاعة التي خصَّه الله بها، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر بما جاوباه به، يدل على أن عندهما من علم باطنة ذلك، وعاقبة أمره ما ليس عند عمر؛ ولذلك لم يسكن عمر حتى بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، فسكن جأشه، وطابت نفسه"([3]).
ثانيًا: انزعاج عمر رضي الله عنه كان بسبب أن شروط الصلح كانت في الظاهر مجحفة في حق المسلمين، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلم بالمصلحة في ذلك العمل، قال ابن الجوزي: "فأما الصلح فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قصد العمرة، ورده المشركون، واصطلح هو وهم في غزاة الحديبية على أن يرجع عنهم تلك السنة، ويعود في العام القابل، وكتبوا بينهم كتابًا، وكان فيه: أن من أتى محمدًا منهم بغير إذن وليه رده إليه، ومن أتى قريشًا من أصحاب محمد لم يردوه، وهذا الذي أزعج عمر؛ لأنه رأى أن في هذا نوع ذل، ولهذا قال: ففيم نعطي الدنية؟ يعني النقيصة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالمصلحة"([4]).
ثالثًا: مما يبين تناقض علماء الإمامية، والكيل بمكيالين عندهم، أنهم حكموا على الفاروق عمر رضي الله عنه بالنفاق، أو الكفر بسبب هذا الكلام، في حين أننا نجد هذه العبارة قيلت للإمام الحسن بعد صلحه مع معاوية رضي الله عنهما من قبل كبار أصحابه وأشياعه، ومع ذلك اعتذر لهم علماء الشيعة الإمامية، ولم يروا أن كلامهم طعن في الحسن، أو انتقاص منه، أو معارضة لفعله.
قال معروف هاشم الحسني: "وقال له عدي بن حاتم الطائي ونفسه تكاد تذهب من الألم والأسى: يا ابن رسول اللّه لوددت أني مت قبل تسليمك الأمر لمعاوية، لقد أخرجتنا من العدل إلى الجور فتركنا الحق الذي كنا فيه ودخلنا الباطل الذي كنا نهرب منه وأعطينا الدنية من أنفسنا".
ثم يعتذر له ولغيره من الشيعة ممن اعترض على فعل الحسن إلى غير ذلك مما رواه المؤرخون من الكلمات القاسية التي كان يسمعها من شيعته وأنصاره والتي لم تكن لتصدر منهم، لولا الجور والاضطهاد والتعذيب الذي لحقهم من معاوية وعماله لا لشيء إلا لأنهم يوالون عليا وآله، وكان (ع) يتحمل منهم كل ذلك ويعرف الدوافع التي اضطرتهم الى مقابلته بهذا الأسلوب"([5]).
فإذا كان الإمام تحمل هذه الكلمات القاسية التي صدرت من شيعته لعلمه بالدوافع والظروف التي دفعتهم لقولها، أفلا يكون الفاروق رضي الله عنه أيضًا معذورًا، وقد رأى في ظاهر الأمر أن تلك الشروط مجحفة كما رأى أصحاب الحسن أن صلحه إذلالاً لهم ونقيصة؟
وعلماء الإمامية اعتذروا لعدي بن حاتم ولم يحملوا كلامه على أنه طعن في الإمام؛ قال باقر شريف القرشي: "وعدي بن حاتم هو الفذ المثالي الذي ضرب الرقم القياسي للعقيدة والإيمان والفداء فى سبيل الله، وقد اندفع هذا الصحابي العظيم بثورة نفسية عارمة إلى انكار الصلح، وكانت لهجة حديثه لهجة مؤدب كامل، فقال للإمام وقد ذابت حشاه من الحزن والمصاب: "يا ابن رسول الله، لوددت أني مت قبل ما رأيت، أخرجتنا من العدل الى الجور، فتركنا الحق الذي كنّا عليه، ودخلنا في الباطل الذي كنّا نهرب منه، وأعطينا الدنية من أنفسنا، وقبلنا الخسيس التي لم تلق بنا"، وترك كلام عدي في نفس الامام بالغ الأسى والحزن"([6]).
فانظر كيف وصفه بأوصاف عظيمة، بل وصف كلامه ولهجة حديثه أنها لهجة مؤدبة، مع أنه قال للإمام الحسن ما استنكره الشيعة على عمر بن الخطاب.
ونقلت هذه العبارة أيضا عن حجر بن عدي، قال عبد العزيز الطباطبائي: "وكان حجر بن عدي أول من يذم الحسن على الصلح، وقال له قبل خروجه من الكوفة: خرجنا من العدل ودخلنا في الجور، وتركنا الحق الذي كنا عليه، ودخلنا في الباطل الذي كنا نذمه، وأعطينا الدنية، ورضينا بالخسيسة، وطلب القوم أمراً، وطلبنا أمراً، فرجعوا بما أحبوا مسرورين، ورجعنا بما كرهنا راغمين"([7]).
ولم نجد أحدًا من علماء الإمامية طعن في حجر بن عدي أو اتهمه بالنفاق، أو الكفر كما فعلوا مع الفاروق عمر رضي الله عنه، مع أن كلام حجر واضح الدلالة على المعارضة لفعل الإمام.
بل نجدهم يثنون عليه ويمدحونه، تقول الدكتورة نبيلة عبد المنعم داود: "وكانت الشيعة قد ساءها تنازل الحسن عن الخلافة، وقد أظهرت له ذلك، وأول من كلمه في ذلك حُجر بن عدي الكندي قال: «يا ابن رسول الله لوددت أني مت قبل ما رأيت، أخرجتنا من العدل إلى الجور، فتركنا الحق الذي كنا عليه، ودخلنا في الباطل الذي نهرب منه، وأعطيتنا الدنية من أنفسنا، وقبلنا الخسيسة التي لم تلق بنا»، فكان جواب الحسن له: «إنما صالحت بقيًا على شيعتنا خاصة من القتل»، وحجر بن عدي من الشيعة ومن المخلصين لعلي. ([8])
فهل يقال في الصحابيين الجليلين عند الشيعة (عدي بن حاتم وحجر بن عدي) ما قاله جعفر مرتضى العاملي: "ثم جاءت المفاجأة الأكبر والأخطر، والتي حاول البعض-وهو عمر بن الخطاب بالذات- أن يثير من أجلها عاصفة من التحدي لشخص رسول اللّه «صلى اللّه عليه وآله»، إلى حد التفكير بقيادة حركة تمرد ضده «صلى اللّه عليه وآله»، كما صرح به عمر نفسه، وذلك لأنه اعتبر أنه «صلى اللّه عليه وآله» قد أعطى الدنية في دينه، ورضي بها"([9]).
فهل حجر وعدي أثارا عاصفة من التحدي لشخص الإمام الحسن وقادا حركة تمرد ضده؟
سبحانك هذا بهتان عظيم
والحمد الله رب العالمين
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
([1]) رسائل ومقالات (4/650).
([2]) الصحابة بين العدالة والعصمة (ص 488).
([3]) المفهم (3/640).
([4]) كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/112).
([5]) سيرة الأئمة الاثني عشر(ع) (1/ 537).
([6]) حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل (2/ 266).
([7]) الحسين عليه السلام والسنة (ص: 41).
([8]) نشأة الشيعة الامامية (ص 71).
([9]) الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله، العاملي، السيد جعفر مرتضى (16/126).
لتحميل الملف pdf