الشبهة الستون
طعن الشيعة في عمر رضي الله عنه بسبب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم له: " أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟!!"
محتوى الشبهة:
قال الشيعة إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرأ في كتب أهل الكتاب، ويتعلم منهم لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب منه وقال "أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ".
قال صلاح الدين الحسيني: "ثمّ إنّه من المعروف أنّ عمر بن الخطّاب كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاول دائما أنْ يقرأ التوراة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب لذلك، وكان دائماً يمنعه من قراءتها، حتّى وصل به الأمر أنْ طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يدوّن حِكم وتعاليم اليهود التي يتحدّثون بها ويتداولونها، حتّى تنفع المسلمين، إلا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفض ذلك الأمر، وغضب غضباً شديداً"([1]).
واستندوا على ما رواه الإمام أحمد بسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ وَقَالَ: "أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي"([2]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: أما من حيث السند، فهذا الإسناد فيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف لا يحتج به.
قال عنه ابن الجوزي:" مجَالد بن سعيد بن عُمَيْر بن ذِي مران الهمذاني الْكُوفِي، يروي عَن الشّعبِيّ، وَقيس بن أبي حَازِم، قَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ يحيى، وَالنَّسَائِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف، وَقَالَ يحيى مرّة: لَا يحْتَج بحَديثه، وَقَالَ مرّة: صَالح، وَقَالَ ابْن حبَان: يقلب الْأَسَانِيد وَيرْفَع الْمَرَاسِيل لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ"([3]).
وقال ابن شاهين: "مجالد بن سعيد ضعيف واهي الحديث. وكان يحيي بن سعيد يقول: لو أن يرفع لي مجالد بن سعيد حديثه كله. رفعه. قلت له: ولم يرفع حديثه ... ؟ قال: لضعفه"([4]).
ومن احتج بأن مجالد من رجال مسلم؛ فنقول له أن الامام مسلمًا قد نقل عنه في المتابعات؛ والمتابعات يدخل فيها الضعفاء، كما قال الامام النووي: "(وَمُجَالِدٌ) هُوَ بِالْجِيمِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ هُنَا مُتَابَعَةً وَالْمُتَابَعَةُ يَدْخُلُ فِيهَا بَعْضُ الضُّعَفَاءِ"([5]).
وقد ضعف بعض أهل العلم جميع الروايات التي وردت في هذه القصة.
يقول عبد القادر محمد عطاء صوفي: "على أن روايات هذا الحديث جميعها لا تخلو من قادح... وبناء على ذلك فلا يحتج بهذا الحديث"([6]).
قلت: وأحسن إسناد ورد للقصة عند الخطيب البغدادي: "أنا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ نِيخَابٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُحَدِّثُونَا بِأَحَادِيثَ قَدْ أَخَذَتْ بِقُلُوبِنَا وَقَدْ هَمَمْنَا أَنْ نَكْتُبَهَا فَقَالَ: "أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا يَتَهَوَّكُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً وَلَكِنِّي أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَ لِي الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا"([7]).
قلت: هذا ضعيف؛ لإرسال الحسن البصري.
قال الامام مسلم: "وَالْمُرْسَلُ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي أَصْلِ قَوْلِنَا، وَقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ"([8]).
وقال الامام ابن الصلاح: " وَالْمَشْهُورُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ التَّابِعِينَ فِي اسْمِ الْإِرْسَالِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الْمُرْسَلِ حُكْمُ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، إِلَّا أَنْ يَصِحَّ مُخْرَجُهُ بِمَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ"([9]).
وقال الامام الذهبي: "ومن أوهى المراسيل عندهم: مراسيلُ الحَسَن"([10]).
وقال الامام الألباني في مراسيل الحسن البصري رحمه الله: " قلت: والمرسل ضعيف عند المحدثين، وبخاصة مرسل الحسن البصري؛ فقد قال بعض الأئمة: "مراسيل الحسن البصري كالريح"([11]).
قلت: فهذا حال أحسن إسناد في القصة.
ثانيًا: على فرض صحة القصة، وقد حسنها بعض أهل العلم:
الشيخ شعيب الأرناؤوط حسن الحديث عند تعليقه على شرح السنة، وحسنه الشيخ الألباني في "الإرواء"، وحسنه الشيخ أبو الأشبال الزهيري في "جامع بيان العلم وفضله([12])، فليس فيها قدح في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة المعلمي: "وعلى فرض صحته، فالغضب من المجيء بذاك الكتاب كان لسببين:
الأول: إشعاره بظن أن شريعتهم لم تنسخ، ولهذا دفع ذلك بقوله: "لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني".
والثاني: أنه قد سبق للمشركين قولهم في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، (قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، وفي اعتياد الصحابة الاتيان بكتب أهل الكتاب وقراءتها على النبي صلى الله عليه وسلم ترويج لذاك التكذيب، والسببان منتفيان عمن اطلع على بعض كتبهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن عمرو"([13]).
ثالثًاً: حتى لو سلمنا بصحته فليس فيه ما يقدح في عمر رضي الله عنه من جهة أنه كان لا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب إذا قرأ أحد من أصحابه في كتب أهل الكتاب، فلما جاء النهي انتهى، ولذلك ورد في بعض الروايات أنه قال :"فَقُمْت فَقلت رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِكَ رَسُولا ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "([14]).
ثم إن عمر رضي الله عنه ما فعل ذلك إلا رغبة في الاستزادة من العلم فلما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى.
رابعًا: قد ورد في كتب الشيعة أن أئمتهم يقرأون في كتب أهل الكتاب، فما حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يقرأ في تلك الكتب إذا؟
في (الكافي): "عن هشام ابن الحكم في حديث بريه أنه لما جاء معه إلى أبي عبد الله فلقي أبا الحسن موسى بن جعفر فحكى له هشام الحكاية، فلما فرغ قال أبو الحسن لبريه: يا بريه كيف علمك بكتابك؟ قال: أنا به عالم، ثم قال: كيف ثقتك بتأويله؟ قال: ما أوثقني بعلمي فيه، قال: فابتدأ أبو الحسن ’ يقرء الإنجيل؟
فقال بريه: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك، قال: فآمن بريه وحسن إيمانه، وآمنت المرأة التي كانت معه.
فدخل هشام وبريه والمرأة على أبي عبد الله فحكى له هشام الكلام الذي جرى بين أبي الحسن موسى وبين بريه، فقال أبو عبد الله : ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم، فقال بريه: أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟
قال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرؤوها ونقولها كما قالوا، إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول لا أدري"([15]).
وفي (بحار الأنوار) للمجلسي: " : روي أن جماعة استأذنوا على أبي جعفر قالوا : فلما صرنا في الدهليز إذا قراءة سريانية بصوت حسن يقرأ ويبكي حتى أبكى بعضننا وما نفهم ما يقول فظننا أن عنده بعض أهل الكتاب استقرأه ، فلما انقطع الصوت دخلنا عليه فلم نر عنده أحدا ، قلنا لقد سمعنا قراءة سريانية بصوت حزين قال : ذكرت مناجاة إليا النبي فأبكتني"([16]).
وفي (بحار الأنوار) للمجلسي: " عن ضريس الكناسي قال : كنت عند أبي عبدالله وعنده أبو بصير فقال أبوعبد الله إن داود ورث الانبياء وإن سليمان ورث داود ، وإن محمدًا ورث سليمان وما هناك ، وإنا ورثنا محمدًا ، وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى"([17]).
فهؤلاء أئمة الشيعة يقرأون التوراة والإنجيل والزبور؛ بل ويحكمون بحكم آل داود:
في (الكافي)، -وقال المجلسي في (مرآة العقول): حسن موثق-بسنده عن أبي عبيدة الحذاء: "أن الصادق قال ...، ثم قال: يا أبا عبيدة إذا قام قائم آل محمد حكم بحكم داود وسليمان لا يسأل بينة"([18]).
وقد اتهم المفيد الصدوق بأنه يأخذ عقيدته من النصارى:
قال الصدوق: "اعتقادنا في الجنة أنها دار البقاء ودار السلامة..... وهم أنواع مراتب: منهم المتنعمون بتقديس الله وتسبيحه وتكبيره في جملة ملائكته"([19]).
فجاء المفيد فقال: "وقول من يزعم: أن في الجنة بشرًا يلتذ بالتسبيح والتقديس من دون الأكل والشرب، قول شاذ عن دين الاسلام، وهو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أن المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكة لا يطعمون ولا يشربون ولا ينكحون"([20]).
فليحكموا على أئمتهم وعلمائهم بالحيرة والشك إذًا؟
والحمد الله رب العالمين
([1]) سبيل المستبصرين إلى الصراط المستقيم، صلاح الدين الحسيني (ص 453).
([2]) مسند الإمام أحمد، (23/349).
([3]) الضعفاء والمتروكون، لابن الجوزي (٣٥/٣).
([4]) تاريخ أسماء الضعفاء والكذابين، ابن شاهين (١٨١).
([5]) شرح صحيح مسلم، النووي (10/102).
([6]) موقف الشيعة الإثني عشرية من الصحابة رضي الله عنهم (ص807-808).
([7]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي (١٦١/٢).
([8]) صحيح مسلم (٢٩/١).
([9]) مقدمة ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح (ص 53 )
([10]) الموقظة، الذهبي (ص 6).
([11]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، محمد ناصر الدين الالباني (12/666).
([12]) شرح السنة (1/270)، الإرواء (6/ 34، رقم 1589)، جامع بيان العلم وفضله تحقيق الشيخ أبو الأشبال الزهيري (2/ 19).
([13]) الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة (ص: 122)
([14]) الأحاديث المختارة -المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما- المقدسي (٢١٧/١).
([15]) الكافي (١/٢٢٧).
([16]) بحار الأنوار، للمجلسي (٢٦/١٨١).
([17]) بحار الأنوار، المجلسي (٢٦/١٨٣).
([18]) الكافي (1/ 397)، والمجلسي في (مرآة العقول) (4/298).
([19]) الاعتقادات في دين الإمامية (ص76).
([20]) تصحيح اعتقادات الإمامية (ص117).
لتحميل الملف pdf