الشبهة الثانية والستون
قول عمر: "فَرَأَيْتُمَانِي كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا".
محتوى الشبهة:
دائمًا ما يحاول الرافضة الطعن بالشيخين رضي الله عنهما من خلال حديث في (صحيح الإمام مسلم)، ويكررون ذلك في كتبهم ومنتدياتهم، ويقولون: بأن هذه عقيدة علي في أبي بكر وعمر من أصح كتب أهل السنة.
وإليك الرواية كاملة:
روى الإمام مسلم بسنده عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَوْسٍ، حَدَّثَهُ قَالَ: "أَرْسَلَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَجِئْتُهُ حِينَ تَعَالَى النَّهَارُ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِهِ جَالِسًا عَلَى سَرِيرٍ مُفْضِيًا إِلَى رُمَالِهِ، مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ لِي: يَا مَالُ، إِنَّهُ قَدْ دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ قَوْمِكَ، وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ، فَخُذْهُ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ، قَالَ: قُلْتُ: لَوْ أَمَرْتَ بِهَذَا غَيْرِي، قَالَ: خُذْهُ يَا مَالُ، قَالَ: فَجَاءَ يَرْفَا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَبَّاسٍ، وَعَلِيٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الْكَاذِبِ الْآثِمِ الْغَادِرِ الْخَائِنِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: أَجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ وَأَرِحْهُمْ ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ: يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا قَدَّمُوهُمْ لِذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: اتَّئِدَا، أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»، قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ، وَعَلِيٍّ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»، قَالَا: نَعَمْ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِخَاصَّةٍ، لَمْ يُخَصِّصْ بِهَا أَحَدًا غَيْرَهُ، قَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [ الحشر:7] مَا أَدْرِي هَلْ قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا أَمْ لَا؟ قَالَ: فَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَكُمْ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ، فَوَاللهِ، مَا اسْتَأْثَرَ عَلَيْكُمْ، وَلَا أَخَذَهَا دُونَكُمْ، حَتَّى بَقِيَ هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ مِنْهُ نَفَقَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ أُسْوَةَ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَتَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ نَشَدَ عَبَّاسًا، وَعَلِيًّا، بِمِثْلِ مَا نَشَدَ بِهِ الْقَوْمَ، أَتَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُمَا تَطْلُبُ مِيرَاثَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَيَطْلُبُ هَذَا مِيرَاثَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»، فَرَأَيْتُمَاهُ كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَوَلِيُّ أَبِي بَكْرٍ، فَرَأَيْتُمَانِي كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، فَوَلِيتُهَا ثُمَّ جِئْتَنِي أَنْتَ وَهَذَا وَأَنْتُمَا جَمِيعٌ وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ، فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللهِ أَنْ تَعْمَلَا فِيهَا بِالَّذِي كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذْتُمَاهَا بِذَلِكَ، قَالَ: أَكَذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُمَانِي لِأَقْضِيَ بَيْنَكُمَا، وَلَا وَاللهِ لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَرُدَّاهَا إِلَيَّ "([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: الذي قال هذا الكلام "فَرَأَيْتُمَانِي كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا" هو عمر رضي الله عنه نفسه، وأما علي رضي الله عنه فلم يقل شيئًا من ذاك قط، وكان من ضمن الصفات قوله "كاذب" فلئن كان عمر صادقًا في قوله أن من صفاته الكذب لأوجب نقض قوله كله؛ لأن الكاذب حديثه مردود في وجهه، فلماذا صدقتم أن عمر كاذب وفي نفس الوقت صادق في قوله "فرأيتماني....."؟!، ثم كلمة "فرأيتماني" دليل على أن هذا تخرص وظن لم يُعبَّر عنه بلفظ صريح من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهو مجرد ظن من عمر والظن لا يغني من الحق شيئا كما هو معلوم، وعليه فإن إجراء تلك الألفاظ على ظاهرها يجعلها تتساقط كلها؛ لأن من وَصف نفسه بالكذب هو الذي صدقتموه فوجب التساقط عقلاً..
ولا يقال هنا أن عليًّا رضي الله عنه أقره وإقرار عليّ حجة؛ لأنه سيأتي معنا من القرائن الكثرة ما يدلل على أن عليًّا يعلم أن هذا الكلام ليس على ظاهره.
ثانيًا: الدليل على أن عمر: "صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ"([2])، أنه أطاع النبي صلى الله عليه وسلم في رواية الكافي([3]) التي صححها علماء الشيعة، قال النراقي: "صحيحة أبي البختري عن الصادق عليه السلام، قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أنهم لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظًا وافرًا)"([4]).
فهذا دليل بره وصدقه ورشده واتباعه للحق.
ثم إن الثابت عن السنة والشيعة، أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما عملا في أموال النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل فيها صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن فدك كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كخمس خيبر وحوائط بني النضير، فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ منها نفقة نساءه وما بقي يجعله في الكراع والسلاح في سبيل الله، فكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي علي ذلك بلا خلاف بين أهل السنة والرافضة.
في رواية البخاري: "فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا المَالِ، يَعْنِي مَالَ اللَّهِ، لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَزِيدُوا عَلَى المَأْكَلِ»، وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَضِيلَتَكَ، وَذَكَرَ قَرَابَتَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَقَّهُمْ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي"([5]).
وقد اعترف ميثم البحراني حيث قال:" إن أبا بكر كان يطبق ما وعد به فاطمة رضوان الله عليها.. حيث ذكروا: (إن أبا بكر كان يأخذ غلتها (أي: فدك) فيدفع إليهم (أي: أهل البيت) منها ما يكفيهم، ويقسم الباقي، فكان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم كان عليٌّ كذلك"([6]).
فهذا اعتراف من الشيعة بأن أبا بكر وعمر عملا في أموال النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل فيها صلى الله عليه وسلم، وهذا أصدق دليل على انه "صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ".
بل وزيادة على ذلك: روى ابن شبة عَنْ عُرْوَةَ: "... وَأَعْطَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَخْلًا، يُقَالُ لَهُ: الْأَعْوَافُ، مِمَّا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"(([7].
فإذا قال أحد أنَّ مَن عَمِلَ عَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "كَاذِب آثِم غَادِر خَائِن" فقد رجع الطعن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا محالة.
ثالثًاً: لما استخدم عمر رضي الله عنه نفس ألفاظ العباس رضي الله عنه لما وصف عليًّا رضي الله عنه دلَّنا ذلك على أنه يقول لعلي والعباس لو عملت أنا وأبو بكر بخلاف الصواب الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستحققنا تلك الأوصاف، كما أن العباس لما رءاك عملت بخلاف ما يعتقد أنه الصواب وصفك بتلك الأوصاف؛ وقد كانت صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي في المدينة أعطى عمر إدارتها لعلي والعباس فاختلفا في مجرد الإدارة..
في رواية الصحيحين: "فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، وَأَمَّا خَيْبَرُ، وَفَدَكٌ، فَأَمْسَكَهَا عُمَرُ، وَقَالَ: هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ، وَأَمْرُهُمَا إِلَى مَنْ وَلِيَ الأَمْرَ.."([8]).
رابعًا: عقيدة علي في فدك تبرئ أبا بكر وعمر من تلك التهمة، لأن عليًّا لم يعتقد وجوب تملك أموال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يريد إدارتها فقط.
وقد صح صحة ضرورية عند السنة والشيعة أن عليًّا لما تولى الخلافة لم يرد عدم إلى ورثتها الشرعيين، ففي أحكام المواريث ذكر علماؤهم أحكام المناسخات، وقرروا وجوب توزيع التركة حتى ولو كان الوارث الأول ([9]).
ومن الأدلة على أن علياً رضي الله عنه لم يرد فدك، حديث الكافي([10])، قال المجلسي عنه:" الحديث عندي معتبر"([11])، وفيه: "...أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة (عليها السلام)".
قال المازندراني:" ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام، دل على أنه عليه السلام لم يرد فدكًا في خلافته؛ لإفضائه إلى الفساد والتفرقة، فلا ترد ما أورده بعض العامة من أن أخذ فدك لو لم يكن حقا لرده عليه السلام في خلافته"([12]).
وفي رواية (علل الشرائع) بسنده عن أبي الحسن قال:" سألته عن أمير المؤمنين لمَ لمْ يسترجع فدكًا لما ولى الناس؟ فقال: لأنا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممن ظلمنا إلا هو، ونحن أولياء المؤمنين، إنما نحكم لهم، ونأخذ حقوقهم ممن ظلمهم، ولا نأخذ لأنفسنا"([13]).
قلت: وهذا عين الحمق؛ لأنه يلزم من ذلك أن فاطمة خالفت الشرع المنسوب إلى أهل البيت لما طالبت بفدك من أبي بكر الذي أخذها ظلمًا حسب زعم الشيعة.
وقال محسن الأمين:" الصحيح أن عليًّا لم يقم بإدارة فدك، ولم تدفع إليه بعد وفاة النبي (ص)، وخرجت عن يده ويد زوجته الزهراء ولم تعد إلى ورثة الزهراء إلا في خلافة عمر بن عبد العزيز، وخلافة السفاح، والمهدي، والمأمون"([14]).
وقد عللوا ذلك بعجز عليّ رضي الله عنه عن تطبيق الشريعة، في كتاب (الأراضي) لمحمد إسحاق الفياض قال:" أمير المؤمنين (ع) لا يقدر على تغيير ما صنعه الخلفاء قبله ( ([15].
قلت: والعاجز لا يصلح للإمامة قطعًا.
فثبت من هذا أن عليًّا رضي الله عنه عمل في فدك بما عمل فيها الخلفاء الراشدون قبله، ولم يعرف تلك العقيدة المنسوبة إليه من الشيعة، وبه يظهر أن تلك الألفاظ التي صدرت من عمر لم تكن هي عقيدة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
خامسًا: مجيء علي رضي الله عنه للتحاكم عند عمر رضي الله عنه دليل على أنه لا يعتقد حقائق تلك الأوصاف، ولو اعتقدها لكان قد جهل دين الشيعة.
جاء في (الكافي)([16]) وقال المجلسي عنه موثق([17]): "من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتًا، وإن كان حقه ثابتًا؛ لأنه أخذ بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به".
فلو كان عمر بتلك الأوصاف لما جاز أن يتحاكم إليه العباس وعلي.
سادسًا: هناك قرائن قوية تقول بأن الكلام خرج مخرج الاستفهام الانكاري، وهذا موجود في لغة العرب، وكذلك في القران الكريم.
قال النحاس في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الأنبياء:34]، "جيء بالفاء التي في (فهم) عند الفراء لتدلّ على الشرط؛ لأنه جواب قولهم: ستموت، ويجوز أن يكون جيء بها؛ لأن التقدير فيها: أفهم الخالدون إن متّ. قال الفراء: ويجوز حذف الفاء وإضمارها؛ لأن هم لا يتبيّن فيها الإعراب، أو لأن المعنى أهم الخالدون إن مت"([18]).
وقال الطبرسي: "(فهم الخالدون) أي: أفهم يخلدون بعدك، يعنى مشركي مكة حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون، فقال: لئن مت فإنهم أيضا يموتون، فأي فائدة لهم في تمني موتك"([19]).
فيكون تقدير كلام عمر رضي الله عنه: "أفَرَأَيْتُمَاهُ كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا"، وكذلك قوله: "أفَرَأَيْتُمَانِي كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا".
والدليل على ذلك القرائن الواضحة في الرواية ألا وهي:
مناشدته بالله لعلي والعباس وباقي الصحابة رضي الله عنهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ)، فكلهم صدقه، وقال له نعم، أي: أنهم أقروا جميعا بما فيهم علي والعباس رضي الله عنهم بذلك، ومن المستحيل أن يتواطأ جميع هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قول عمر عن نفسه وعن أبي بكر رضي الله عنهما: (لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ)، وتصديق علي والعباس رضي الله عنهما على ذلك.
قال ابن حجر الهيتمي: " فَحِينَئِذٍ أثْبتْ عمر أَنه غير إِرْث ثمَّ دَفعه إِلَيْهِمَا؛ ليعملا فِيهِ بِسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وبسنة أبي بكر فَأَخَذَاهُ على ذَلِك، وَبَين لَهما أَن مَا فعله أَبُو بكر فِيهِ كَانَ فِيهِ صادقًا بارًا راشدًا تَابعًا للحق فصدقاه على ذَلِك"([20]).
قول عمر رضي الله عنه: (فَقُلْتُ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ أَنْ تَعْمَلَا فِيهَا بِالَّذِي كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذْتُمَاهَا بِذَلِكَ)، فكيف يكون كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا من يأخذ عهد الله عليهما أن يعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم !
كل هذه القرائن تدل دلالة واضحة على أن المفهوم من كلام عمر رضي الله عنه هو مدح لا قدح، والله تعالى أعلم([21]).
سابعًا: أن تلك الألفاظ محمولة على سبيل المشاكلة، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه فيصطحبه لنكتة، كما في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]
ومعلوم أن الله لا يوصف بالنسيان ولا بالمكر على سبيل الإطلاق، وبه يظهر أن عمر لما استخدم نفس الألفاظ التي ذكرها العباس خرج الكلام إلى المشاكلة لا أكثر.
ثامنًا: مخاطبة العباس لعمر بقوله: "يا أمير المؤمنين" دليل على أنهما لم يعتقدا ما قاله عمر إذ أن أمير المؤمنين لا يجوز أن يكون كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا..
تاسعاً: إذا تنزلنا - جدلا- وقلنا بأن هذا الكلام خرج على ظاهره فهو متقدم، وحكمه بأفضليتهما متأخر، وإذا تعذر الجمع بين قولي المجتهد اعتُمد المتأخر منهما؛ لأنه لا يجوز أن ننسب إلى أحد قولاً ثبت بالأسانيد الصحيحة تراجعه عنه، وقد يكون التراجع لأسباب كثيرة: منها اطلاعه على ما لم يكن يعلم من الأدلة، أو تبينه لخطإٍ ظنه، وفساد مناط حكمه، أو ظهور وجه في الاستنباط أقوى مما اعتمد عليه.
عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ قَالَ:" قُلْتُ لِأَبِي أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: «أَبُو بَكْرٍ»، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ عُمَرُ»، وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: «مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ» "([22]).
وعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ، يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي، فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَأيْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَحَسِبْتُ إِنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ»([23]).
وكذلك فإن عليًّا رضي الله عنه قد زوج ابنته أم كلثوم من عمر رضي الله عنه، روى البخاري بسنده عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَقَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ: "إِنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، فَبَقِيَ مِنْهَا مِرْطٌ جَيِّدٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَعْطِ هَذَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي عِنْدَكَ، يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ، فَقَالَ عُمَرُ: أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ بِهِ، «وَأُمُّ سَلِيطٍ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» قَالَ عُمَرُ: فَإِنَّهَا كَانَتْ تُزْفِرُ لَنَا القِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ"([24]).
فظهر أن الاستدلال بهذا الأثر من أبطل الباطل.
عاشراً: أن ذلك محمول على ما يصدر من الإنسان في حالة الغضب، ولا يقره حال الرضى.
عن أبي بكرة قال: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" (([25]. ذلك؛ لأن الغضب يحجب العقل عن كمال الإدراك.
وقد ورد مثل هذا في كتب الرافضة، قال محمد الريشهري: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من ابتلي بالقضاء فلا يقضي، وهو غضبان". قال الإمام علي (عليه السلام) -لشريح-: "لا تسار أحدًا في مجلسك، وإن غضبت فقم، فلا تقضين فأنت غضبان". وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" ( ([26].
حادي عشر: هذه أقوال صدرت في معرض العتاب وليست على ظاهرها، فهو وارد مورد الأخذ بأسوأ ما يحتمل لزومه من الفعل، مبالغة في العتاب والزجر، كما إذا ذهبت إلى طبيب ثقة فأعطاك علاجًا فلم تتناوله، فذهبت إليه مرة أخرى، فقال لك: هل رأيتني كاذبًا آثمًا غادرًا..الخ، مع أنك لو رأيته كذلك لما ذهبت إليه.
وأما عند الشيعة فطعنهم في بعضهم لا يعد، ولا يحصى ومنه على سبيل المثال:
1- الأصبغ بن نباته: ثقة، ومن خواص أصحاب علي عند الشيعة، ومع ذلك ملعون هو وأصحابه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جاء في كتاب (العوالم) للإمام الحسين: "...فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يعض على الأنامل، وهو يقول: بئس الخلف خلفتني أنت وأصحابك عليكم لعنة الله ولعنتي( ([27].
فهذا ملعون وثقة، ولا شك أنكم التمستم له تبريرًا.
2- الحسن عليه السلام لعبد الله بن علي: لعنك الله من كافر.
وقد عجز المجلسي عن توجيه هذه المسألة فقال: "وأما ما تضمن من قول الحسن - عليه السلام- لعبد الله بن علي فيشكل توجيهه، لأنه كان من السعداء الذين استشهدوا مع الحسين صلوات الله عليه على ما ذكره المفيد وغيره، والقول بأنه عليه السلام علم أنه لو بقي بعد ذلك، ولم يستشهد لكفر بعيد"([28]).
3- اتهام الشيعة محمد بن الحنفية بالزنا.
في (الكافي) بسنده: " ...إن امرأة أقرت عند أمير المؤمنين (عليه السلام) بالزنا أربع مرات، فأمر قنبرًا فنادى بالناس فاجتمعوا، وقام أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إن إمامكم خارج بهذه المرأة إلى هذا الظهر؛ ليقيم عليها الحد إن شاء الله .....ونادى بأعلى صوته: أيها الناس ، إن الله عهد إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) عهدًا عهده محمد (صلى الله عليه وآله) إليّ بأنّه لا يقيم الحد من لله عليه حد، فمن كان لله عليه مثل ماله عليها فلا يقيم عليها الحد، قال : فانصرف الناس يومئذ كلهم ما خلا أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) ، فأقام هؤلاء الثلاثة عليها الحد يومئذ وما معهم غيرهم ، قال : وانصرف يومئذ فيمن انصرف محمد بن أمير المؤمنين ( عليه السلام) "([29]).
فها هو محمد بن علي بن أبي طالب يقول عنه الشيعة: أنه وقع في فاحشة الزنا رحمه الله وحاشاه؟!!
فإذا الزمناكم بذلك أوَّلتم تلك الألفاظ، وقلتم ليس اللعن على حقيقته، وليس الزنا على حقيقته، وأخرجتم معاني باطنية لتبرروا طعوناتكم!!!
والحمد الله رب العالمين
( ([1] صحيح مسلم، بَاب حُكْمِ الْفَيْءِ (3/ 1377 .(
( ([2] صحيح البخاري (4/97).
( ([3]الكافي، الكليني (1/33).
([4]) عوائد الأيام، النراقي (ص 463)، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري (3/551)، ونهج الفقامة محسن الحكيم (ص297(، والاجتهاد والتقليد للخميني (ص32)، كتاب البيع، الخميني (2/ 645)، دراسات في ولاية الفقيه الفقيه، المنتظري (1/467).
( ([5]صحيح البخاري (5/20).
(([6] شرح النهج، لابن ميثم (5/ 107).
(([7] تاريخ المدينة لابن شبة (1/ 211).
([8]) صحيح البخاري (4/ 79).
(([9] انظر: تحرير الأحكام، الحلي (5/ 95-98)، الينابيع الفقهية، علي أصغر مرواريد (2/138 -139)، فقه الصادق، محمد صادق الروحاني (24/461).
( ([10]الكافي، الكيني (8/59).
( ([11]مرآة العقول، المجلسي (25/ 131).
(([12] شرح أصول الكافي، المازندراني (11/398).
(([13] علل الشرائع، الصدوق (1/155).
(([14] أعيان الشيعة، محسن الأمين (11/308).
( ([15]الأراضي، محمد إسحاق الفياض (ص278).
(([16] الكافي، الكليني (7/412).
(([17] مرآة العقول، المجلسي (24/ 275).
([18])إعراب القرآن، أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النَّحَّاس (3/50).
(([19] تفسير مجمع البيان، الطبرسي (7/84(.
( ([20]الصواعق المحرقة، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي (1/9).
( ([21]راجع: الجواهر البغدادية (5/17 -18.(
( ([22]صحيح البخاري، بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا (5/7 .(
([23])صحيح البخاري، بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَبِي حَفْصٍ القُرَشِيِّ العَدَوِيِّ رضي الله عنه (5/11)، وصحيح مسلم ، بَابُ مِنْ فَضَائِلِ عُمَرَ رضي الله عنه (4/1858 .(
([24]) صحيح البخاري، بَابُ ذِكْرِ أُمِّ سَلِيطٍ (5/100).
([25]) صحيح البخاري (9/65).
([26]) ميزان الحكمة، محمد الريشهري (٣/٢٥٩٠).
([27]) (العوالم) (ص50).
[28])) بحار الأنوار ، للمجلسي ، 13/307 ، تفسير العياشي ، لمحمد بن مسعود العياشي ، 2/333 ، تفسير نور الثقلين ، للحويزي ، 3/278 ، البرهان ، لهاشم البحراني ، 2/476
([29]) الکافی، الكليني (14/47).
لتحميل الملف pdf