الشبهة السبعون
جعل الشيعة المسألة المشتركة من المطاعن على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
محتوى الشبهة:
ذكر محمد طاهر القمي الشيرازي من ضمن المطاعن التي على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ومنها: ما نقله (صاحب القاموس) من علماء السنة، وهذه عبارته: المشركة كمعظمة، ويقال: المشتركة زوج وأم وأخوان لأم وأخوان لأب وأم، حكم فيها عمر، فجعل الثلث للأخوين لأم، ولم يجعل للأخوين للأب والأم شيئاً، فقالوا له: يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حمارًا فأشركنا بقرابة أمنا، فأشرك بينهم، فسميت مشركة ومشتركة وحمارية"([1]).
وقال الأميني: "كأن أحكام القضايا تدور مدار ما صدر عن رأي الخليفة سواء أصاب الشريعة أم أخطأ، وكأن الخليفة له أن يحكم بما شاء وأراد، وليس هناك حكم يتبع وقانون مطرد في الإسلام، ولعل هذا أفظع من التصويب المدحوض بالبرهنة القاطعة".
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: لما ذكر الشيعة هذا على أنه من المطاعن على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يبينوا وجه المخالفة التي فيها، وهذا دليل على جهلهم بمخرج المسألة وعلى أي قاعدة تأصلت، وما وجه الصواب فيها، ويكفي هذا إسقاطاً لاعتراضهم، وبيان سخافة طرحهم.
ثانيًا: المسألة المشتركة صورتها: أن تُخلِّف امرأةٌ زوجًا وأمًا (أو جدة) وعددًا من أولاد الأم، وأخ شقيق أو أكثر بشرط أن يوجد بينهم ذكر.
روى البيهقي بإسناده: "عن إبراهيمَ، عن عُمَرَ وعَبدِ اللَّهِ وزَيدٍ رضي الله عنهم أنَّهُم قالوا: لِلزَّوجِ النِّصفُ، ولِلأُمَّ السُّدُسُ، وأشرَكوا بَينَ الإِخوَةِ مِنَ الأبِ والأُمَّ والإِخوَةِ مِنَ الأُمَّ في الثُّلُثِ، وقالوا: ما زادَهُمُ الأبُ إلا قربًا"([2]).
وقد اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، وسبب الخلاف أنها لم ترد بنصها في الكتاب والسنة وإنما هي من فروع قوله تعالى: { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } [سورة النساء:12]، فقد قالوا: إن الكلالة من لا ولد له ولا والد، وأن المراد بالأخ والأخت هنا الإخوة لأم فقط؛ لأن الكلام في ميراثها.
فقال بعض الصحابة: إن القاعدة في الإرث أن يأخذ أصحاب الفرائض فروضهم ويأخذ العصبات الباقي، لحديث: "ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ الفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"([3]).
فمن قال بعدم التشريك نظر إلى أصل القاعدة، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ([4]).
وأما القول الثاني الذي قضى بالتشريك بين الإخوة لأم والأشقاء وهو قول عمر الأخير وَقَوْلُ زَيْدٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّهُمَا وَغَيْرِهِمَا مُقَلِّدَانِ لِزَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ، وَهِيَ رِوَايَةُ حَرْبٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ([5]).
ولهذا القول أدلة ترجع كلها إلى الاستحسان الممدوح: الاستحسان قال عنه أهل العلم هو: قياس خفيت علته بالنسبة لقياس ظاهر متبادر.
وقد نقل الشوكاني عن الْقفَّال قوله: "إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ مَا دلت عليه الْأُصُولُ بِمَعَانِيهَا، فَهُوَ حَسَنٌ، لِقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ، قَالَ: فَهَذَا لَا نُنْكِرُهُ وَنَقُولُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَقَعُ فِي الْوَهْمِ منِ اسْتِقْبَاحِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ، مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ، من أصل ونظيره، فَهُوَ مَحْظُورٌ، وَالْقَوْلُ بِهِ غَيْرُ سَائِغٍ"([6]).
وتقرير هذا الاستحسان الذي رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن قبله زيد بن ثابت لما قال كما عند الحاكم: "عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فِي الْمُشْتَرَكَةِ قَالَ: "هَبُوا أَنَّ أَبَاهُمْ كَانَ حِمَارًا مَا زَادَهُمُ الْأَبُ إِلَّا قُرْبًا وَأُشْرِكَ بَيْنَهُمْ فِي الثُّلُثِ" هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ"([7]).
هذا الاستحسان تقريره من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: لو كان ولد الأم بعضهم ابن عم لشارك الإخوة لأم بقرابة الأم، فورث معهم من هذه الجهة، وإن سقطت عصبته التي هي جهة كونه ابن عم، قالوا: فالأخ الشقيق أولى من ابن العم.
وصورة المسالة حتى تتضح: ماتت عن: أخ لأم، وأخ لأم هو ابن عم، وعن عم، فابن العم ليس له التعصيب لوجود عاصب أقرب منه، فإذا حجب عن التعصيب فلا يسقط فرضه، ويرث على أنه أخ لأم.
فيتقرر من هنا قاعدة: "إذا بطلت إحدى الجهتين بقيت الأخرى".
قالوا: فالأخ الشقيق أولى، الأخ الشقيق هو أخ لأم، وهو قريب من جهة الأب، فإذا أبطلت الإرث من جهة الأب عن طريق التعصيب فلا يسقط من جهة الأم، وهذا استحسان من أروع ما أنت قارئ ولذا قضى به عمر رضي الله عنه.
الوجه الثاني: أنها فريضة جمعت ولد الأبوين وولد الأم، وهم من أهل الميراث، فإذا ورث ولد الأم ورث ولد الأبوين كما لو لم يكن فيها زوج، فلو لم يكن في المسألة زوج لورث الإخوة الأشقاء قطعاً وجزماً، فوجود الزوج لا ينبغي أن يكون سبباً في منع الإخوة الأشقاء عن الميراث، لأنه لا قوة للزوج ليطرد الإخوة الأشقاء؟
وعليه: إذا لم يبق للأشقاء شيء يشركهم مع الإخوة لأم لأنهم يدلون بأم واحدة، فإذا ورث الإخوة لأم ينبغي أن يرث الإخوة الأشقاء، وهذا استحسان مبني على قواعد العدالة التي بني عليها الميراث.
الوجه الثالث: أن الإرث موضوع على تقديم الأقوى على الأضعف، وأدنى أحوال الأقوى مشاركته للأضعف، فليس في أصول الميراث سقوط الأقوى بالأضعف، وولد الأب والأم أقوى من ولد الأم لمساواته له في الإدلاء بالأم وزيادة الأب، فإن لم يزده الأب قوة لم يضعفه.
وأسوأ الأحوال أن يكون وجوده كعدمه، فهنا الإخوة الأشقاء يدلون بقرابتين، والإخوة لأم يدلون بأم، وهؤلاء يشاركونهم في هذه الأم؛ فكيف يعقل أن يسقط الأشقاء ويرث الإخوة لأم؟ وهذا استحسان قوي، قَالَ الْعَنْبَرِيُّ: هَذِهِ وَسَاطَةٌ مَلِيحَةٌ وَعِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ([8]).
ولكل ما ذكرنا من أدلة شرعية معتبرة قضى الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه وأرضاه بهذا القضاء.
ثالثًاً: هذه المسألة من المسائل التي تتقارب فيها الأدلة جدًا، ولذلك فقد نُقِل عن عمر فيها قضاءان، وكذلك عثمان نقل عنه قضاءان أيضاً، وابن عباس، وابن مسعود كلهم نُقل عنهم قضاءان في هذه المسألة كقضاء عمر، فهذا يدل على تقارب الأدلة في المسألة.
قال ابن تيمية: "وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى قِيلَ: إنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهَا عَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ إلَّا عَلِيًّا وَزَيْدًا؛ فَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْ وَزَيْدٌ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ أَنَّهُ يُشْرِكُ. قَالَ الْعَنْبَرِيُّ: الْقِيَاسُ مَا قَالَ عَلِيٍّ وَالِاسْتِحْسَانُ مَا قَالَ زَيْدٍ"([9]).
وهنا نأخذ قاعدة: "أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وهذا معنى قول عمر: "تِلكَ على ما قَضَينا، وهَذا على ما قَضَينا"([10]).
فهو يشير بذلك إلى قاعدة مقررة أن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد، وبما أنه لا يوجد نص في القضية، ونحن نجتهد للوصول إلى مراد الله في هذه المسألة فلا ينقض اجتهاد باجتهاد. ولذلك لم يُثرِّب الصحابة رضي الله عنهم على بعضهم البعض.
يقول الشاطبي: "وَوَجَدْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَعْدِهِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَلَمْ يَتَفَرَّقُوا، وَلَا صَارُوا شِيَعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوا الدِّينَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا أُذِنَ لَهُمْ مِنِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا لَمْ يَجِدُوا فِيهِ نَصًّا، وَاخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ فَصَارُوا مَحْمُودِينَ؛ لِأَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِيمَا أُمِرُوا بِهِ كَاخْتِلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ فِي الْجَدِّ مَعَ الْأُمِّ، وَقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَخِلَافِهِمْ فِي الْفَرِيضَةِ الْمُشْتَرَكَةِ"([11]).
وروى الخطيب البغدادي عن سُفْيَانَ، قال: "مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَلَا أَنْهَى أَحَدًا مِنْ إِخْوَانِي أَنْ يَأْخُذَ بِهِ"([12]).
وروى عنه أيضًا: "إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ وَأَنْتَ تَرَى غَيْرَهُ فَلَا تَنْهَهُ"([13]).
وبه يثبت أنه لا يجوز التشغيب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعمل هم مأجورون عليه إما أجرًا واحدًا وإما أجرين.
حَدَّثَنِي قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ، قَالَ: "مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَعْلَمَ بِاللَّهِ، وَلَا أَقْرَأَ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا أَفْقَهَ فِي دِينِ اللَّهِ مِنْ عُمَرَ"([14]).
رابعًا: قد خالف الشيعة في هذه المسألة كتاب الله تعالى، وخالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فهذه المسألة على قواعد الشيعة جوابها أن يأخذ الزوج فرضه وهو النصف، والباقي للأم فرضا وردا، وليس لواحد من الإخوة شيء مطلقا مع وجود الأم...!
قلت وهذا مخالف لكتاب الله لأن الله قال: { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } [سورة النساء:12].
وهذه المسألة كلالة بلا شك، والزوج قد أخذ النصف، والأم السدس لتعدد الأخوة، وبقي الثلث الذي هو نصيب الإخوة لأم كما ذكرت الآية صراحة، فهذه مخالفة صريحة لكتاب الله ومعارضة، بل معاندة لنص واضح صريح.
وأما مخالفتهم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فالثابت أن عليا حكم فيها بأن الثلث للإخوة لأم كما روى البيهقي وغيره: "عن أبى مِجلَزٍ، أن عثمانَ بنَ عَفّانَ رضي الله عنه شَرَّكَ بَينَ الإِخوَةِ مِنَ الأُمِّ والإِخوَةِ مِنَ الأبِ والأُمِّ في الثُّلُثِ، وأنَّ عَليًّا رضي الله عنه لَم يُشَرِّكْ بَينَهُم"([15]).
وفي (مصنف ابن أبي شيبة) عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي امْرَأَةٍ تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَإِخْوَتَهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَإِخْوَتَهَا لِأَبِيهَا، "فَلِزَوْجِهَا النِّصْفُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِأُمِّهَا السُّدُسُ سَهْمٌ، وَلِإِخْوَتِهَا لِأُمِّهَا الثُّلُثُ سَهْمَانِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِإِخْوَتِهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْئًا فِي قَضَاءِ عَلِيٍّ"([16]).
قال البيهقي: "فهو عن علىِّ رضي الله عنه مَشهورٌ"([17]).
فهذا قضاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن يرث الإخوة لأم مع أمهم موافقة لكتاب الله، لكن الشيعة أبوا إلا مخالفة الكتاب والسنة!!
والحمد الله رب العالمين
([1]) الأربعين (ص563).
([2]) السنن الكبرى، للبيهقي (12/578).
([3]) صحيح البخاري (8/153)، صحيح مسلم (3/1233).
([4]) منهاج السنة النبوية (6/98).
([5]) منهاج السنة النبوية (6/98).
([6]) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (2/183).
([7]) المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 374).
([8]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية (31/339).
([9]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية (31/339).
([10]) السنن الكبرى، للبيهقي (12/575)، وأخرجه ابن أبى شيبة (31620)، والبخاري في تاريخه (2/ 332) من طريق ابن المبارك به.
([11]) الاعتصام (2/ 734).
([12]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/135).
([13]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/136).
([14]) مصنف ابن أبي شيبة (6/355).
([15]) السنن الكبرى، للبيهقي ت التركي (12/577)، مصنف عبد الرزاق الصنعاني(10/251).
([16]) مصنف ابن أبي شيبة (6/247).
([17]) السنن الكبرى، للبيهقي ت التركي (12/582).
لتحميل الملف pdf