الشبهة الثالثة والسبعون
زعم الشيعة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عطل سهم المؤلفة قلوبهم
محتوى الشبهة:
مما أثاره الرافضة طاعنين في الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه عطل سهم المؤلفة قلوبهم، ورأى أنهم لا يعطون من هذا السهم.
قال علي الشهرستاني: "إذاً يمكن للباحث -وبمطالعة سريعة لتاريخ صدر الإسلام- الوقوف على أُمور كثيرة صدرت من قبل الشيخَين... وتعطيل عمر بن الخطّاب لسهم المؤلَّفة قلوبهم مع أنّ الله قد فرضه لهم في كتابه العزيز بقوله: { لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [ التوبة:60] ([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: عمر رضي الله عنه إنما لم ير إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة لعدم الحاجة لتأليفهم نظرًا لانتشار الإسلام وقوته؛ قال ابن تيمية: "وَمَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَرْعًا مُعَلَّقًا بِسَبَبِ إنَّمَا يَكُونُ مَشْرُوعًا عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ: كَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ؛ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَبَعْضُ النَّاسِ ظَنَّ أَنَّ هَذَا نُسِخَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى عَنْ التَّأَلُّفِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، وَهَذَا الظَّنُّ غَلَطٌ؛ وَلَكِنْ عُمَرُ اسْتَغْنَى فِي زَمَنِهِ عَنْ إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ فَتَرَكَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لَا لِنَسْخِهِ كَمَا لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ عُدِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ابْنُ السَّبِيلِ وَالْغَارِمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ"([2]).
ثانيًا: هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء من قديم، فقد رأى بعضهم سقوط سهم المؤلفة قلوبهم زمن قوة الإسلام لعدم الحاجة إلى تأليفهم، وإن احتاجوا إلى ذلك أعطوا من الزكاة.
قال القرطبي: " واختلف العلماء في بقائهم - يعني المؤلفة قلوبهم- فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم: انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره، وهذا مشهور عن مذهب مالك وأصحاب الرأي.
قال بعض علماء الحنفية: لما أعز الله الإسلام وأهله، وقطع دابر الكافرين اجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على سقوط سهمهم.
وقال جماعة من العلماء: هم باقون، لأن الإمام ربما احتاج أن يتألف على الإسلام، وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين.
قال يونس سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخًا في ذلك، قال أبو جعفر النحاس: فعلى هذا الحكم فيهم ثابت، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه، ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة، أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد دفع إليه.
قال القاضي عبد الوهاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة، وقال القاضي ابن العربي: الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، فإن في (الصحيح): "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ "([3]).
ثالثًاً: منع عمر رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ، واستمر على ذلك في خلافته هو، فهل خالف بذلك حكما ثبت بالقرآن، وتأكد بعمل الرسول؟ وكيف وافقه أبو بكر والصحابة؟
قال ابن الهمام:" فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِإِثَارَةِ الثَّائِرَةِ، أَوْ ارْتِدَادِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْلَا اتِّفَاقُ عَقَائِدِهِمْ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ مَفْسَدَةَ مُخَالَفَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْمُتَوَقَّعَةِ لَبَادَرُوا لِإِنْكَارِهِ"([4]).
ثم يواصل كلامه موضحًا أن الغاية من هذا التشريع إعزاز المسلمين، وإن إعطاء الأموال للمؤلفة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وسيلة لهذه الغاية، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثرة المسلمين، أصبح عدم إعطائهم هو الذي يؤدي إلى إعزاز المسلمين؛ لأن إعطاءَهم في حالة الكثرة والمنفعة إذلالاً للمسلمين، وإظهاراً لهم بمظهر الضعف والقلة، لاختلاف ظروف المسلمين، فقال:" عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا عُمَرُ صلى الله عليه وسلم تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى قال تعالى: { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [سورة الكهف:29]، وَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ فِي قَوْلِنَا حُكْمٌ مُغَيَّا بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّفْعَ لِلْمُؤَلَّفَةِ هُوَ الْعِلَّةُ لِلْإِعْزَازِ إذْ يُفْعَلُ الدَّفْعُ لِيَحْصُلَ الْإِعْزَازُ فَإِنَّمَا انْتَهَى تَرَتُّبِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْإِعْزَازُ عَلَى الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ.
وَعَلى هَذَا قِيلَ: عَدَمُ الدَّفْعِ الْآنَ لِلْمُؤْتَلِفَةِ تَقْرِيرًا لِمَا كَانَ فِي زَمَنِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا نَسْخَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ الْإِعْزَازَ، وَكَانَ بِالدَّفْعِ وَالْآنَ هُوَ فِي عَدَمِ الدَّفْعِ"([5]).
فعمر رضي الله عنه والصحابة من بعده لم ينسخوا نص الآية، أو عارضوها، ولم يبطلوا العمل بها؛ لأن هناك فرقًا كبيرًا بين نسخ النص وبين وقف العمل به، حتى يوجد من ينطبق عليه.
رابعًا: الرافضة الذين يعيبون على عمر رضي الله عنه إيقاف سهم المؤلفة بالتقرير الذي سبق بيانه، هم أنفسهم يقررون أن أئمتهم مشرعون.
يقول السيستاني:" هناك بعض الروايات التي تدل على أنه كلما فوض للنبي (ص) قد فوض للأئمة(ع)، ما عدا النبوة، من جملة ما فوض له (ص) حق التشريع الدائم، إذن فحق التشريع الدائم ثابت للأئمة (ع) وقد سبقت الإشارة لهذه الفكرة في بعض الروايات السابقة.
ولكن توجد روايات أخرى مقابلة لهذه الروايات، تدل على أن كلما يفتي به الأئمة (ع) إنما هو على وفق الكتاب والسنة، فليس هنا رأي وفتوى فيما وراء الكتاب والسنة، بل بعضها ذكر فيها أن علمهم أصول علم ورثها كابر عن كابر. إلا أنها معارضة بطائفة كبيرة من الروايات التي يظهر منها أن هناك بعض الأحكام التي لا توجد في الكتاب والسنة، وأن الأئمة كانوا موفقين في أقوالهم وآرائهم فيها"([6]).
بل ويجوز للأئمة أن ينسخوا أحكام الشريعة، التي جاءت في الكتاب والسنة.
قال السيستاني:" النسخ: وتحدثنا فيه عن امكان صدور النسخ من قبل أهل البيت للآية القرآنية والحديث النبوي والحديث المعصومي السابق، وأقسام النسخ من النسخ التبليغي الذي يعني كون الناسخ مودعاً عندهم: من قبل الرسول لكنهم يقومون بتبليغه في وقته، والنسخ التشريعي وهو عبارة عن صدور النسخ منهم ابتداء، وهذا يبتني على ثبوت حق التشريع لهم: كما كان ثابتاً للرسول، وقد طرحنا هذا الموضوع أيضاً ضمن بحث النسخ"([7]).
فيجوز للإمام أن ينسخ القرآن والسنة، لا نسخًا تبليغيًّا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل نسخًا تشريعيًّا صادرًا منهم بالأصالة؛ بناء على ثبوت حق التشريع لهم. فكيف لمن يعتقد بهذا أن ينكر على الفاروق عمر رضي الله عنه وباقي الصحابة توقيف سهم المؤلفة بناء على المصلحة في ذلك؟
خامساً: ورد في كتب الرافضة، أن المهدي سيحول قبلة الصلاة إلى كربلاء، وينسخ الأمر القرآني قال تعالى: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [سورة البقرة:144].
روى المجلسي بسنده عن المفضل بن عمر قال: قال الصادق:"كأني أنظر إلى القائم على منبر الكوفة وحوله أصحابه ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً عدة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكام الله في أرضه على خلقه، حتى يستخرج من قبائه كتابًا مختومًا بخاتم من ذهب عهد معهود من رسول الله فيجفلون عنه إجفال الغنم، فلا يبقى منهم إلا الوزير وأحد عشر نقيبًا كما بقوا مع موسى بن عمران.
فيجولون في الارض فلا يجدون عنه مذهبًا، فيرجعون إليه والله إني لأعرف الكلام الذي يقوله لهم فيكفرون به"([8]).
يعلق السبزواري على هذه العبارة: "والله إني لأعرف الكلام الذي يقوله لهم فيكفرون به"، قائلا: "عن بعض الوعاظ المطلعين إن هذا الكلام، هو قوله: "اجعلوا كربلاء قبلة وصلوا إليها"([9]).
ويقول أيضاً:" سمعت من بعض المشايخ أن كربلاء تجعل قبلة في زمان خروج المهدي"([10]).
فكيف جاز للمهدي أن يعطل هذا الحكم الشرعي الذي ثبت في القرآن بنص واضح وقاطع، وعليه المسلمون من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أتشريع بعد رسول الله؟
سبحانك هذا بهتان عظيم
والحمد الله رب العالمين
([1]( زواج أم كلثوم الزواج اللغز، علي الشهرستاني (ص 56).
(([2] مجموع الفتاوى، ابن تيمية (33/94).
(([3] تفسير القرطبي (8/181).
(([4] فتح القدير، الكمال بن الهمام (2/260).
(([5] فتح القدير، الكمال بن الهمام (2/260).
(([6] اختلاف الحديث من محاضرات علي السيستاني، هاشم الهاشمي(ص20-21).
(([7] الرافد في علم الأصول محاضرات السيد علي السيستاني، منير السيد عدنان القطيفي (ص 26).
(([8] بحار الأنوار، المجلسي (52/326).
([9]( التعليق على بحار الأنوار، السبزواري (1/414).
(([10] التعليق على بحار الأنوار، السبزواري (1/419).
لتحميل الملف pdf