أخرج النسائي قال: «أَخْبَرَنا حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ: أَخْبَرَنا الْفَضْلُ بْن مُوسَى، عَن جُعَيْدِ بْن عَبْدِ الرَّحْمَن قَالَ: أَخْبَرَني عَبْدُ الْمَلِكِ بْن مَرْوَان بْن الْحَارِثِ بْن أَبِي ذُبَابٍ قَالَ: أَخْبَرَني أَبُو عَبْدِ اللهِ سَالِمٌ -يَعْني سَبَلَان- قَالَ: وَكَانتْ عَائِشَةُ تَسْتَعْجِبُ بِأَمَانتِهِ وَتَسْتَأْجِرُهُ، فَأَرَتْني كَيْفَ كَان رَسُولُ اللهِ ق يَتَوَضَّأُ، قَالَ: «فَتَمَضْمَضَتْ وَاسْتَنثَرَتْ ثَلَاثًا، وَغَسَلَتْ وَجْهَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَتْ يَدَهَا الْيُمْنى ثَلَاثًا، وَالْيُسْرَى ثَلَاثًا، وَوَضَعَتْ يَدَهَا فِي مُقَدَّمِ رَأْسِهَا، ثُمَّ مَسَحَتْ رَأْسَهَا مَسْحَةً وَاحِدَةً إِلَى مُؤَخَّرِهِ، ثُمَّ مَرَّتْ بِيَدَيْهَا بِأُذُنيْهَا، ثُمَّ مَرَّتْ عَلَى الْخَدَّيْن» قَالَ: سَالِمٌ كُنتُ آتِيهَا مُكَاتِبًا فَتَجْلِسُ بَيْن يَدَيَّ، وَتَتَحَدَّثُ مَعِي، حَتَّى جِئْتُهَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقُلْتُ: ادْعِي لِي بِالْبَرَكَةِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنين، قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: أَعْتَقَني اللهُ، قَالَتْ: بَارَكَ اللهُ لَكَ، وَأَرْخَتِ الْحِجَابَ دُوني فَلَمْ أَرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ»([1]).
قال الرافضة: «ومن غير المناسب أن تتوضَّأ عائشة وتغسل يديها وخدَّيها ووجهها وأذنيها»([2]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولًا: منازعة من صحح سند الرواية.
هذه الروايةُ صحَّحَ إسنادَهَا الشيخُ الألباني([3])، والصحِيحُ ضَعْفُهَا؛ ففي إسنادِها عبد الملك بن مروان بن الحارث بن أبي ذياب، وهو مجهول الحال، ولم يوثقه أحد، إلا أن ابن حبان أورده في كتابه الثقات، ولم يحك فيه جرحًا ولا تعديلًا.
قال الذهبي: «ولا يفرح بذكر ابن حبان له في (الثقات)، فإن قاعدته معروفة من الاحتجاج بمن لا يعرف»([4]).
وقال المعلمي: «ولكن ابن حبان يشدد، وربما تعنت فيمن وجد في روايته ما استنكر، وإن كان الرجل معروفًا مكثرًا، والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء»([5]).
والشيخ الألباني نفسه لا يأخذ بتوثيق ابن حبان منفردًا، فقال: «وقد عرف عند العلماء أن توثيق ابن حبان مجروح؛ لأنه بناه على قاعدة له وحده، وهي: أن الرجل إذا روى عنه ثقة، ولم يعرف عنه جرح فهو ثقة عنده، وعلى ذلك بنى كتابه المعروف بـ(الثقات)، وكذلك تجد فيه كثيرًا من المجاهيل عند الجمهور؛ إنما أورده ابن حبان فيه لرواية ثقة عنده، ومن العجائب أنه يقول في بعضهم: «روى عنه مهدي بن ميمون؛ لا أدري من هو ولا ابن من هو؟!...»([6]).
وليس للرجل متابعة حتى يُحكم على الحديث بأنه حسن لغيره، فضلًا عن أن يُحكم عليه بالصحة، فإذا طبقنا كلام الألباني فلن نتردد في الحكم على الأثر بالضعف.
وقد قال الحافظ في (التقريب): «عبد الملك بن مروان بن الحارث بن أبي ذباب: مقبول، من السادسة»([7]).
وهذه المرتبة حديثها ضعيفٌ عند جمهور أهل العلم، فحكم حديث الراوي المقبول هو الضعف؛ لأنه يمثل حكم حديث الراوي المجهول، والجمهور على رده وتضعيفه([8]).
ثانيًا: لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن.
قول الألباني: «صحيح الإسناد» ليس تصحيحًا للأثر، فهناك فرق بين قولهم: «هذا الحديث صحيح» وبين قولهم: «إسناده صحيح»؛ فالأول جَزْمٌ بصحته متنا وإسنادًا، والثاني شهادة بصحة سنده دون متنه، وقد يكون فيه علة أو شذوذ، فيكون سنده صحيحًا، ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه([9]).
ثالثًا: على فرض الصحة فالعبد المملوك لا تحتجب منه سيدته.
لو صحت الرواية فلا إشكال؛ لأن سالِمًا كان عبدًا مكاتَبًا، فلما أُعتق أرخت الحجاب بينها وبينه، كما جاء في نص الخبر: «قَالَ سَالِمٌ: كُنتُ آتِيهَا مُكَاتَبًا فَتَجْلِسُ بَيْن يَدَيَّ، وَتَتَحَدَّثُ مَعِي، حَتَّى جِئْتُهَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقُلْتُ: ادْعِي لِي بِالْبَرَكَةِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنين، قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: أَعْتَقَني اللهُ، قَالَتْ: بَارَكَ اللهُ لَكَ، وَأَرْخَتِ الْحِجَابَ دُوني، فَلَمْ أَرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ»([10]).
وقد قال النبي ق: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ»([11])، وكانت أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن كما روي عن مجاهد قال: «كانت أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم»، وكذلك كانت فاطمة ل، فيما رواه أحمد، وأبو داود، وابن مردويه، والبيهقي، عن أنس ا: «أن النبي ق أتى فاطمة ل بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي ق ما تلقى قال: «إِنهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ، إِنمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ»»([12]). فكانت أم المؤمنين لا تحتجب منه، كما لم تحتجب فاطمة من مملوكها.
رابعًا: جاء في كتب الرافضة ما يدل على أن المرأة لا تحتجب من مملوكها.
قال يوسف البحراني: «عن معاوية بن عمار بسندين أحدهما صحيح والآخر حسن، قال: قلت لأبي عبد الله S: المملوك يرى شعر مولاته وساقها؟ قال: لا بأس.
وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله (في الصحيح والموثق) عن أبان بن عثمان قال: سألت أبا عبد الله S عن المملوك يرى شعر مولاته؟ قال: لا بأس»([13]).
وروى الكليني بسنده، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: «سألت أبا عبد الله ا المملوك يرى شعر مولاته؟ قال: لا بأس»([14]).
قال المجلسي: «موثق كالصحيح، ويدل على محرومية المملوك لمالكته»([15]).
وفي (الكافي) عن معاوية بن عمار: «... إن المرأة القرشية والهاشمية تركب وتضع يدها على رأس الأسود وذراعيها على عنقه، فقال أبو عبد الله ا: يا بني، أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: اقرأ هذه الآية: [ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ] حَتّى بَلَغَ [ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ] {الأحزاب:55} ثم قال: يا بني لا بأس أن يرى المملوك الشعر والساق.
كما أنه كذلك يدل على جواز نظر المملوك إلى الوجه واليدين والشعر والساق لا سائر الجسد، ولعله يفهم منه الساعد والعنق أيضًا، وقال بذلك كثير من علمائهم([16]).
وعليه فلا يجوز للرافضة الاعتراض على فعل أم المؤمنين؛ لأنه يلزم منه الاعتراض على الشرع الثابت عندنا وعندهم، والاعتراض على الشرع يدخل صاحبه في الكفر عند الفريقين بلا نزاع.
اقرأ أيضا| قوله لعائشة: «إنكن صواحب يوسف»
([1]) السنن الكبرى، النسائي (1/113).
([2]) موسوعة الأسـئلة العقائدية، مركز الأبحاث العقائدية (4/244).
([3]) صحيح وضعيف سنن النسائي (1/244).
([4]) ميزان الاعتدال (3/175).
([5]) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (1/255).
([6]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (11/282 -283).
([7]) تقريب التهذيب (ص365).
([8]) انظر: «مصطلح (مقبول) عند ابن حجر وتطبيقاته على الرواة من الطبقتين الثانية والثالثة في كتب السنن الأربعة»، محمد راغب راشد الجيطان، رسالة ماجستير 2010م (ص277)، وعليه فالحديث إسناده لا يصح.
([9]) يقول الحافظ ابن الصلاح: «قولهم: (هذا حديث صحيح الإسناد، أو حسن الإسناد)، دون قولهم: (هذا حديث صحيح، أو حديث حسن)؛ لأنه قد يقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا يصح؛ لكونه شاذًّا أو معللا»، مقدمة في علوم الحديث (ص23)، وعليه فقول الألباني: صحيح الإسناد ليس تصحيحًا للحديث.
([10]) السنن الكبرى، النسائي (1/113).
([11]) حديث صحيحٌ، أخرجه أبو داود سننه (3926)، والبيهقيُّ فِي الكبرى (10/327)، وعبد الرزاق فِي مصنفه (8/409).
قال الإثيوبي: «وَقَدْ رُوِّينا فِي هَذَا عن نبهان مولى أم سلمة أنه قَالَ: قالت لي أم سلمة: يا نبهان هل عندك ما تؤدي؟ قلت: نعم، فأرخت الحجاب بيني وبينها، وروت هَذَا الْحَدِيث، قَالَ: فقلت: لا والله ما عندي ما أؤدي، ولا أنا بمؤدٍّ، وإنما سقط الحجاب عنها منه؛ لكونه مملوكها». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (35/215).
قال السندي: «وهذا مبني على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولعله كان عبدًا لبعض أقرباء عائشة، وأنها كانت ترى جواز دخول العبد على سيدته وأقربائها»، وعن مجاهد: «كانت أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (2/534)
([12]) سنن أبي داود (6/200) (ح4105).
([13]) الحدائق الناضرة (23/69).
([14]) الكافي (5/531).
([15]) مرآة العقول (20/367).
([16]) انظر: مستند الشيعة، النراقي (16/53)، ووسائل الشيعة، الحر العاملي (20/223)، ومستمسك العروة الوثقى، محسن الحكيم (14/43).
لتحميل الملف pdf